أطفال ادلب … عمالة في ظروف صعبة وقاسية
نهى الحسن – ادلب – خاص أنا إنسان
بثياب رثة ووجه ملطخ بالشحوم ويتصبب عرقاً وقف الطفل هشام ( ١٤عاماً) من معرة النعمان منهكاً أمام ورشة تصليح السيارات التي يعمل بها يتأمل الأطفال وهم عائدون من المدرسة التي طالما حلم أن يكون طالباً على أحد مقاعدها ويتخرج منها بأعلى الدرجات، قطع أحلامه فجأة صراخ صاحب الورشة يناديه غاضباً: “لا وقت للتسلية هيا بسرعة فلدينا الكثير من الأعمال” فما كان من هشام إلا أن امتثل لأوامره لكي لا يطرده من مصدر رزق عائلته الوحيد.
الطفل هشام أجبره واقع الحياة في ظل الحرب الراهنة أن يكون كبيراً ويحمل على عاتقه أعباء أسرة كاملة بعد أن استشهد والده في إحدى غارات طيران النظام على بلده.
فبعد أن سادت الفوضى والحرب في البلاد على مدار ثماني سنوات وبعد ما خلفته من فقر وفقد ونزوح، أصبح البحث عن لقمة العيش هو الهاجس الأكبر للبقاء ولأن معظم الأسر السورية فقدت معيلها في هذه الحرب لسبب أو لآخر كان لابد من توجه أطفال بعمر الزهور إلى العمل في مختلف الأعمال والأشغال المنهكة لأجسادهم الصغيرة بدلاً من التوجه إلى المدارس وممارسة حقوقهم في اللعب كأطفال.
أثناء العمل قد يتعرض هؤلاء الأطفال إلى أشكال مختلفة من الإجهاد والعنف النفسي والجسدي تحت شعار مصلحة الطفل، كما ويتعرض أيضا الكثير منهم للاستغلال بكافة أشكاله من قبل أرباب العمل دون رأفة أو رحمة في ظل غياب الرقابة والمحاسبة. على الرغم من وقوف هشام طوال النهار والعمل بشكل مستمر فإن صاحب الورشة يجبره على الذهاب إلى السوق ليجلب له بعض الحاجيات الخاصة وإن لم يحسن اختيارها يؤنبه ويضربه، وفضلاً عن ذلك فإنه يطلب منه غلي الشاي والقهوة وتقديمهما سواء له أو لزبائنه، وكل ذلك مقابل أجر زهيد بالكاد يستطيع أن يسد به رمق أسرته.
وحين سُئل أبو زهير وهو أحد أرباب العمل عن سبب اختياره للأطفال للعمل في ورشته كان جوابه : “لأن الأطفال يعملون بنشاط ولساعات طويلة مقابل أجور زهيدة فضلاً عن أنهم يسمعون الكلام دون جدال.”
ويختلف العمل الذي يقوم به الأطفال فمنهم من يعمل كبائع متجول أو في ورش الخياطة، وقد يعمل البعض عملاً مجهداً كالبناء وغيره وقد يلجأ البعض الآخر للتسول.
فالطفل وسام الصبيح من بلدة حاس الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر راح يعمل في بيع المعروك (نوع من المعجنات) في الشوارع بعد عودته من المدرسة لمساعدة والده في مصروف البيت في ظل الغلاء الفاحش.

أما الطفل نبيل السلوم 12 عاماً من بلدة حيش فقد وجد نفسه المعيل الوحيد لعائلته بعد أن اُعتقل والده من قبل نظام الأسد، فراح يعمل في أحد أفران الخبز ليعين والدته وإخوته في سد نفقات المنزل عوضاً عن الجلوس على مقاعد الدراسة.
ومما لاشك فيه هو أن الأطفال النازحين كانوا من أكثر الفئات السكانية عمالة نظراً لما فرضته الهجرة من مصاريف إضافية وقعت على عاتق الأسرة المهجرة.
فالطفل سامي(١٣عاما) نزح مع أهله من الغوطة واستقر في سراقب بريف إدلب حيث اضطر للعمل في إحدى ورشات الخياطة في ظل الفقر الشديد الذي تعاني منه أسرته .
يقول سامي والحزن يعتصر قلبه: “لقد اضطررتُ إلى ترك المدرسة رغم أنني كنت من المتفوقين وألتحقتُ بعمل أساعد من خلاله والدي لاسيما في تسديد آجار بيتنا الذي يبلغ ٣٠ ألف ليرة سورية شهرياً.”
هذا ولم تقتصر عمالة الأطفال على مزاولة المهن المختلفة فحسب بل انخرط الأطفال في أحيان كثيرة في الأعمال العسكرية وخاصة عندما تكون الأجور مغرية، حيث يستغل بعض ضعاف النفوس من المسلحين ممن يدعون انتماءهم للجيش الحر فقر الأهالي في المناطق المحررة عبر تجنيد أطفالهم مقابل تأمين رواتب شهرية ومعونات غذائية.
فتنظيم الدولة مثلا استغل الطفولة بكافة أشكالها عن طريق بثه لصور أطفال صغار دون سن الثامنة وهم مسلحون ويعصبون رؤوسهم بشعارات التنظيم، فيما يقوم قادة من التنظيم بتدريبهم على القيام بأعمال عسكرية، أما من تجاوز منهم سن الرابعة عشرة فيتم تجهيزهم للقيام بعمليات انتحارية أو يوضعون على الخطوط الأمامية للجبهات.
تقول أم عمر من مدينة كفرنبل أن ابنها عمر (١٥عاما) تعرف على أحد عناصر تنظيم الدولة وأقنعه بالذهاب معه إلى ريف حلب وما إن وصل عمر إلى هناك حتى اتصل بأمه وأخبرها أنه هناك ليجاهد، حاولت الأم منعه لكن دون جدوى، وراح يحدثها عن الأعمال الانتحارية وكيف أنه سيفجر نفسه انتقاماً للمظلومين.
لقد كان التنظيم يضم الأطفال المشردين أو الذين فقدوا عائلاتهم مستغلاً وضعهم خصوصاً مع عدم وجود من يسأل عنهم في حال قُتلوا في المعارك، هذا بحسب ماصرح به فارس (اسم مستعار) الذي انشق عن التنظيم ونجح في الهرب والعودة إلى بلده.
اللهو واللعب والمرح كلها كلمات شطبت من قواميس هؤلاء الأطفال وجرت بدلاً عنها أحاديث الكبار على ألسنتهم فكل أحاديثهم مليئة بمفردات الحرب، وحتى أن بعض الأطفال الذين لازال بإمكانهم اللعب فإنهم يلعبون بأدوات حربية من صنع أيديهم الصغيرة، فهذا يصنع بارودة من الفلين وذاك يصنع مسدساً من الخشب بغرض التسلية كما أن رسومات الأطفال لم تخلو من معالم الحرب، فكثير من الأطفال يرسمون بأناملهم الغضة طائرات وصواريخ ودبابات كمشاهد رسختها الحرب الدامية في عقولهم على مدى ثماني سنوات.
المرشدة النفسية عبير الياسين (٤٠عاما)من ريف إدلب انتقدت عمالة الأطفال بشدة وناشدت بضرورة علاجها قبل تفاقمها قائلة: ”في الوقت الذي يلهو فيه بعض الأطفال في المنزل أو المراكز الصيفية، نجد في الجانب الآخر أطفالاً تلوثوا بهموم الحياة بعد أن أجبرهم ذووهم تحت وطأة الحرب والفقر على العمل والكد لكسب المال فتغتال بذلك طفولتهم البريئة، وهو ما ينذر بخطورة كبيرة على المستوى الشخصي للطفل والذي سيؤثر بلا شك على مستقبل المجتمع بشكل عام.“
كما حذرت الياسين من تكليف الأطفال بأعمال تفوق طاقاتهم الجسدية والنفسية من خلال الزج بهم في بعض الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم من أجل كسب القليل من المال، وتنصح الياسين بأن يتم تكثيف الجهود لنشر الوعي نحو (عمالة الأطفال) من خلال التوضيح أن ما يفعله الأهل لا يزيد عن كونه علاجاً مؤقتاً لمشاكل الأسرة المتمثلة بالفقر والتي ستستمر طول العمر في حال عدم الاهتمام بالتعليم، حيث من المفترض التركيز على صقل الأطفال دراسياً ليتمكنوا في المستقبل من انتشال أسرهم من الفقر إلى اليسر.