إن لم تهزك صور شهداء التعذيب؛ فأنت أحد زملائي!
يوسف أبو خليل
رغم فظاعة الصور مع كل تلك الندوب والجروح والقروح وآثار التعذيب؛ إلا أني لم أصل تلك المرحلة التي يتحدث عنها البشر الطبيعيين عن هول ما رأوا وتخيلوا.. لم تهزني صور شهداء التعذيب في معتقلات النظام كما بقية البشر.. بالنسبة لي وأمثالي؛ أن تموت تحت التعذيب يعني أنك نجوت مما هو أعظم.. ولاستكمال سرد وتوصيف ما هو أعظم من عمليات القتل تحت التعذيب والاساليب المتبعة لانتزاع الاعترافات تارة وللتسلية تارات أخرى، يبقى الواجب أن نسلط الضوء على أساليب تعذيب أخرى قَلّ من تحدث عنها!.. أساليب يتّبعها الجلاد ليس لقتل جسدك، بل لتجريدك من مشاعرك وتحويلك لرقم في خانة الضحايا.. أساليب ممنهجة يشرف عليها خبراء نفسيين ليصلوا بك الى هيئة آدمي مسلوب المشاعر.. عشرات بل مئات القصص التي توثق ذاك المنهج المتبع، رغم بساطتها أحياناً إلا أنها تحمل بين سطورها مالا يمكن لإحساس أن يصل، فارضة ألم مستمر إلى مالا نهاية، ومحققة أهداف ما ابتدعت لأجله، قصص لن يفهمها إلا من عاش تلك اللحظات في تلك الأقبية الرطبة العفنة..
كان قد أمضى خمس سنوات في ذاك السجن البارد.. خمس سنوات لم يشعر يوما بالشبع، لخمس سنوات وفي كل ليلة كان يتكور على نفسه ويرسم ابتسامة عريضة بشفتين مشققتين تحت الغطاء الصوفي العسكري المهترء كما قلبه، يحلم وعينيه مفتوحتين؛ هو في حديقة المنزل.. يجلس على كرسيه الخشبي العتيق، يحمل بيده عصا ترفع إبريق شاي وضع فوق موقد نار الحطب، يديّ والدته تقطع الخبز الى لقيمات فوق الطاولة الخشبية المنخفضة، وخيال لأمرأة تحمل علبة حلوة، امرأة هي بالاصل زوجته؛ إلا أنه نسي تفاصيل وجهها، فهو الذي أمضى برفقتها تسعة عشر يوماً؛ قبل أن يجر الى ذاك المكان الفارغ من كل شيء إلا من صرخات مدوية في فضاء صحراوي.. كل ليلة يحلم بفتة الحلاوة؛ وصورة وجه والدته الغارقة في لذة الطعم.. أخبرني ذلك في الباحة الثالثة بعد وجبة الإفطار في سجن تدمر العسكري.. لا زلت اذكر حركة يديه واغماض عينيه وتلذذه بالطعم بعد ابتلاعه للعابه، كيف يمكن لوجبة افطار أن تكون حلم أحدهم؟.. “فتة الحلاوة” تلك الوجبة التي يقدمها سجن تدمر العسكري لنزلائه بشكل يومي.. نصف كوب مما يشبه الشاي البارد، ملعقة صغيرة من الحلاوة؛ تلك التي تشبه الى حد كبير التبن (غذاء الحيوانات) ولكن بطعم حلو المذاق؛ رغيف خبز من القياس الأصغر حجماً، وثلاث حباة من الزيتون المر.. يقطع الخبز الى لقيمات صغيرة ويضاف له ملعقة الحلاوة ومن ثم يسكب الشاي، تخلط المواد جيداً حتى تأخذ شكلها النهائي الذي يشبه الى حد ما “استفراغ رجل عجوز” وتبقى حبات الزيتون تحت مسمى “الدوسير” يشترك خمسة أو ستة أشخاص بصناعة الوجبة ومن ثم بأكلها.. لطالما اختار الكثير من المساجين أن يحصل على عشرين سوط على قدميه وجسده مقابل أن يأكل لقمة زائدة عن بقية المشتركين في الوجبة، فأن تحصل على لقمة أخرى هي بالاصل لسجين آخر هذا يعني أنك تقايض تلك اللقمة بجلسة تعذيب ربما تستمر لعشرات الدقائق.. ضرب السوط على الجسد العاري مخلفاً لحماً ممزقاً وألماً يفوق في محتواه اختراق رصاصة لجسدك أو ملامسة جسدك لكبل كربائي عالي الاستطاعة؛ هو ارحم في الكثير من الأحيان من القيام بفعل تعتبره بقرارة نفسك فعل شائن، اذكر المرة الاولى التي وصلت بها الباحة السادسة حيث مكان تواجد ورشة الحلاقة الخاصة بالمساجين، كنا قد اعتدنا على خلع ملابسنا بالكامل قبل وصولنا الى السجن الصحراوي، لكننا أبداً لم نعتد على رفع أيدينا عالياً وترك السجان يتلذذ بتعذيبنا بالكلام المسيء مرة (اذا كنت ذو عضو صغير) أو بضرب عضوك بالكبل الرباعي (اذا كنت ذو عضو كبير) مرة أخرى، ناهيك عن عرض محاشمك على كل من يتواجد في تلك الباحة.. وصلنا الباحة عارين تماماً ننتظر في طابور الدور حلاقة العانة؛ كان الجو بارداً جداً والوقت لا زال صباحاً حين بدأ السجان يهوي بسوطه على اجسادنا بعد أن وضعنا أيدينا على محاشمنا كردة فعل طبيعية، كانت كلماته وسبابه أصعب من آلام السوط الذي يمزق لحمنا الطري؛ ورغم كل ذلك الألم بقي الكثير منا يضع يديه على محاشمه رافضاً الخضوع لرغبة السجان، أن تقايض ولفترة قصيرة بين اخفاء قضيبك وخصيتيك عن الاعين مقابل أن يلتهم السوط جزءً من لحم مؤخرتك وفخذيك وظهرك هو تصرف طبيعي لحماية عاداتنا وتقاليدنا، لكن تلك العادات والتقاليد وحتى الدين سرعان ما تندثر رويداً رويداً ومع كل مرة تحضر بها الى ورشة حلاقة العانة، ولاحقاً لن تهتم أبداً بتغطية ذاك الجزء من الجسد، بل وحتى سيصل بك الحال الى الطلب من حلاقك وبلطف وتمني أن يحلق لك أكبر مساحة ممكنة من تلك المنطقة التي لطالما اعتبرتها أحد أسرار حياتك التي لن تشاركها إلا مع شريك من جنس آخر، بل ويصل بك الحال إن كنت غني (لديك علب من السجائر الأجنبية) أن تدفع رشوة للحلاق لكي يصل بموسه الوسخ وشفرة العشرين زبون؛ تطلب منه أن يصل الى أقرب نقطة من باب خاتمك!، فاختيار أحد الشرين أمر لا بد منه، عليك أن تختار بين أن يرى الحلاق كامل منطقتك المحرمة، فتنجوا من هجوم قمل الجسد، حيث يغرس جسده تحت الجلد ويمسي من الصعوبة بمكان إخراجه دون المرور بأسوء وضعية جسدية ونفسية قد تصلها في حياتك، أو “وهنا الشر الثاني”: أن تذهب الى الباحة الثالثة؛ تستلقي على بطنك وترفع مؤخرتك عالياً، فارجاً كلتا ليّتيك، وتاركاً لأحدهم العبث في تلك المنطقة باحثاً عن قمل الجسد؛ وملهما كل شرطي يمر من المكان بإبراز موهبة استعمال الكبل الرباعي على مؤخرتك أو ممارساً فن الصفع على أقل تقدير، ناهيك عن شعور الذل الذي ستعيشه حتى مماتك؛ بعد أن يشاهدك المئات من المساجين وأنت في وضعية أنثوية مثيرة..
قصص ابتداعها عبيد الاسد لقتل واذلال السوريين، وليجعلوا منهم أجساد بلا أرواح، بلا عقول، بلا مشاعر، لا تهزهم صور أشخاص قتلوا تحت التعذيب، لكن ليس بلا ذاكرة، فنحن وعبيد الاسد موقنين أن من مات قد نجى، نجى بعد أن ربح الحرب ضد الأسد والجلاد.