السويداء نحو الفيدرالية .. الحقيقة التي يتعامى عنها الجميع
سامر النجم أبو شبلي
تسير خطة فدرلة السويداء أو الحكم الذاتي، أو اللامركزية بشكل بطيء وغير معلن، وسط رغبة حقيقية من الجنوبيين بالانفصال عن المركز “دمشق” أو ما اصطلح على تسميته بسورية المفيدة التي تراعي وضع النظام السوري وممتلكاته، بعيداً عن الشعب (الطائفي).
قبل الخوض في النقاش حول المسوغات والأسباب والحجج، وبعيداً عن العاطفة والأماني، وما زرعه حزب البعث من أهداف سفسطائية طوال عقود عن الوحدة التي لم تحقق ولو جزء من مئة، يجب الابتعاد بشكل مسبق عن قصة الانفصال المشهورة التي لاحت مرتين في القرن الماضي؛ ولم يكتب لها النجاح، فدولة جبل الدروز التي لم تستمر سوى أشهر قليلة فشلت في العشرينيات لأن النضوج الفكري كان ضعيفاً، وفي الثانية كانت رغبة القائد العام سلطان الأطرش بعدم لصق هذه القضية برقبته كون ثورته بنيت بشكل جمعي مع سوريين آخرين، وتجنباً لإراقة الدماء.
لكن التجارب حاضرة في سوريا نفسها ابتداء من شرق الأردن ولبنان، ووصولاً إلى تجربة الحكم الذاتي في الشمال الشرقي، والنماذج التي أقامتها تركيا بعد الحرب في كل من الباب وجرابلس وعفرين، (وإن كانت تغلف بصيغة احتلال). فهذه الدول والمناطق عاشت وقامت وكانت قادرة على أن يكون لها كيانها السياسي المستقل، والأهم أن مواطنيها لم يتعرضوا (ولو بنسبة) لانتهاكات طائفية وملاحقات واعتقالات تعسفية، وكبح وقتل وتنكيل.
قبل أن يدخل الاحتلال الروسي لسوريا في العام 2015، روجت الدوائر السياسية الروسية، والمعاهد الاستراتيجية فيها إلى قضية الفدرلة السورية المرتبطة بالمركز، ضمن تقسيمات محددة تأخذ نظام الحكم الذاتي بكل شيء عدا الجيش والخارجية، وعملت هذه الدوائر على تعميم التجربة الروسية والترويج لها كحل لإنهاء الحرب، لكنها اصطدمت برفض غربي على التفاصيل وآلية الحكم التي تجعل من رأس النظام حاضراً مرة أخرى بأجهزته القمعية وسيطرته على الثروات والمنافذ والحدود. وتبعها بنفس المرحلة طرح الولايات المتحدة لنظامها الفيدرالي المعتمد عندها، ورسم فدرلة الجنوب السوري كله، من ضمن المناطق السورية التي قسمت لاحقاً في الشمال والشرق والوسط، لكن النفوذ الأمريكي في سوريا كان مقتصراً على مناطق محددة فقط، ولم تكن إدارة أوباما جاهزة للخوض في هذه المعركة على الرغم من أن الخلافات الروسية الأمريكية على هذه النقطة بالذات كانت شكلية وبتفاصيل صغيرة كون المبدأ واحد.
وكانت لتجربة الأكراد في الشمال الشرقي السوري التي ما زالت قائمة وصامدة رغم كل التحديات مثالاً مهماً عما يمكن أن يكون الحال عليه في الأشهر القادمة، حيث بنت الإدارة الذاتية مؤسساتها الخاصة وبلدياتها وجيشها ونظامها السياسي المعتمد على الأحزاب، وأعطت المرأة حريتها الكاملة، وترتبط مع المركز باتفاقيات غير معلنة حتى اللحظة. والأهم أن هذه المناطق لا تعتمد على الطائفية، فالأكثرية في الشمال للعرب، والمجالس البلدية تتم بالانتخاب. أما قوات سورية الديمقراطية الجناح العسكري لمجلس سورية الديمقراطية فغالبية عناصره من العرب. ورغم التهديدات التي تنال من هذا الحكم الذاتي وخاصة بعد قرار الولايات المتحدة بالانسحاب العسكري من سورية إلا أن هذا الأمر سياسي ولن يؤثر على المبدأ الذي لا يمكن إلغاؤه إلا باجتياح تركي سوري للمناطق الشمالية الشرقية، وهذا مستبعد.
تقبع محافظة السويداء في أقصى الجنوب السوري، وتتميز بخاصية السكان الذين يعرفون بثقافتهم الواسعة وانفتاحهم على الغير، وعدم الخنوع للضيم. فهو فلاحون بالفطرة، ويستغلون مساحات الأراضي الزراعية القليلة نسبياً ضمن إمكانياتهم لكي يدرأوا عنهم شبح الفقر والعوز، والمهنة الأم في حياتهم كانت وما زالت الهجرة والسفر، وهو ما يجعلها واحدة من أغنى المحافظات بالمال، فقلما تجد بيتاً لا يوجد به مهاجر أو مسافر، ولهذا فقد صمدت طوال الحرب من شبح الجوع الذي أصاب السوريين بمقتل. (وهذه أهم خاصية في الفدرلة والانفصال، حيث يروج النظام لمشكلة المعيشة والخدمات من كهرباء وماء وطحين ومحروقات تمنع الجنوبيين من القدرة على الصمود، وسوف نأتي لاحقاً لذلك).
اتخذ السكان منذ بداية الحرب موقفاً شبه واحد بتحييد المحافظة عن هذه الحرب القذرة التي وصمت بالطائفية، وامتنع غالبية شبانها عن الالتحاق بالجيش الذي يتحكم به ضباط علويين كان همهم الأول الدمار والتعفيش والسرقة، وإذلال باقي الطوائف. وهو ما جعل من السويداء ملجأ النازحين ومحط أمانهم. ورغم ما قامت به الأجهزة الأمنية من محاولات لتفتيت المحافظة من الداخل، وتشكيل عصابات قذرة تابعة لها، وقيام السلطة بإحاطة المحافظة بالدواعش التابعين لها، إلا أنها فشلت بشكل كامل في تقويض الأركان رغم الدعاية والإعلام والأشخاص المتعاملين معها، وذلك بسبب الأعراف والتقاليد التي بنيت عليها المحافظة، والتي كانت السلاح الأمضى في منع الفوضى والدمار، وكانت تجربة الأكراد حاضرة دائماً على الرغم من محاولة التغلغل الإيراني والتشييع المصحوب بالمال والمخدرات، والضغوط والتخوين التي مورست طوال سنوات على الأهالي.
ومع الخاصية التي تميز السويداء عن غيرها بسبب ما يسكنها من أقليات، وأفكار أبنائها الذين كانوا منذ بداية القرن الماضي دعاة عدل وسلام، دأبت السلطات على تهميشهم وتجويعهم، وإلغاء امتيازاتهم بحجة الطائفية. وجاء حزب البعث وعهد حافظ الأسد ليكرس الطائفية في سورية كلها، ويمنع الجبليين من تبوء السلطة، ويحدد نوع السياسيين الذين يحق لهم البروز، حتى وصل الأمر لمنحهم وزارة واحدة لا تتعلق بهم نهائياً بعد أن كان رجالها السياسيين موضع ترحيب وثقة من كل السوريين. حيث تم على مدى السنوات الماضية لحكم الأسدين تصفية كل المثقفين نفياً أو قتلاً، وتحديد الرتب العسكرية لهم، واقتصارها على الذين تربوا في كنفهم.
إذاً ما هي مقومات الفدلة، وكيف يمكن للسويداء أن تعيش بعيداً عن المركز وهي التي لا تمتلك أي ثروات؟.
يطرح النظام عن طريق أجهزته الأمنية مقولة عدم صمود السويداء لمدة أسبوع بلا المركز، بسبب عدم امتلاك المحافظة للثروات الباطنية الأساسية من ماء ونفط وأراض زراعية تكفي لإنتاج الخبز، وهو عار من الصحة تماماً، فالمحافظة تنام على بحر عائم من المياه الجوفية التي لم تكتشف إلا في بداية الألفية الجديدة بسبب مخططات الأسد الأب الدائمة لتعطيش الناس، وإيهام المواطنين بعدم وجود الماء في الجبل، واعتمادها الكلي على مياه الأمطار ودرعا.
ولكن هذه الحجة انتهت بعد أن تحولت قرى كاملة لمزارع تنتج كل أنواع الخضار والفاكهة بفضل الآبار الإرتوزاية التي ظهرت أثناء الحرب، حيث بات الفائض الزراعي واضحاً، واستغني بذلك عن أسواق درعا ودمشق. وعمل عدد كبير من القلاحين على إنتاج القمح وتخزينه لمعرفتهم بخاصية التجويع التي يلوح بها النظام على الدوام.
والعارفين بالجيولوجيا وما كان يتم سابقاً، فإن البحث عن الثروات الباطنية الخام كان يتم بسرية تامة، ويمنع الحديث به إن وجد، فبادية السويداء مليئة بالثروات الباطنية، ويكفيها امتلاكها لأكبر منجم بازلتي في العالم، والتي تحوم الشركات الروسية على استثماره منذ سنوات، وعقدت المؤتمرات الاقتصادية من أجله كثيراً باعتباره ثروة سورية السوداء التي لا تنضب.
أما فيما يتعلق بالكهرباء، فطاقة الرياح قادرة على تزويد سورية كلها به، وهي في طور الإنشاء. وفيما يتعلق بالمنافذ الحدودية فهي قائمة وبإمكان الأمي رسمها.
تبقى باقي التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالعلاقة مع المركز، وهي سهلة نسبياً إذا وجدت الإرادة الحقيقية لذلك، فالأجواء الدولية قادرة على منح الفيدرالية للمحافظة الغنية بناسها وثرواتها، بعيداً عن القتل والطائفية وأوهام سورية المفيدة التي يتحكم بها النظام وأعوانه، والخالية من الحرية والفكر والإنسانية، والمسألة برمتها بحاجة إلى قليل من الوقت.