المهنة الخاسرة في الساحل السوري بين مطرقة سياسة النظام وعوامل الطبيعة
من الحرائق إلى السيول والعواصف مرورا بارتفاع أسعار المواد الأساسية اللازمة للزراعة وصولا لإهمال حكومة النظام قضايا الفلاحين ومساعدتهم في تصريف بضائعهم، يعيش مزارعو الساحل السوري أزمة اقتصادية تهدد استمرارهم بالمهنة وقد بدأ بعضهم بترك هذه المهنة التي ورثوها عن أجدادهم منذ آلاف السنين.
ورغم أن الزراعة تعتبر عامل استقرار وأمان بالنسبة للدول، إلا أن سياسة حكومة النظام عبر سنوات طويلة أدت لتفاقم خسائر الفلاحين. ويعتبر هذا العام هو الأسوأ على فلاحي الساحل السوري الذين تكبدوا خسائر فادحة بدأت بالحرائق التي التهمت أراضيهم بداية الصيف واستمرت بالعواصف والأمطار وأكملت عليها حكومة النظام بمحاربتهم بالأسعار المنخفضة وعدم منحهم تعويضات، حتى وصل الحال بالبعض إلى رمي ثماره وتركها على الأرض رفضا لبيعها بأسعار زهيدة.
البرتقال من يشتري؟
يعتبر مزارعي البرتقال في الساحل السوري الأكثر تضررا في المنطقة حيث تحوي محافظتي اللاذقية وطرطوس بحسب احصاءات حكومة النظام قرابة 12 مليون شجرة حمضيات مثمرة، بنسبة تبلغ 35 % من الأراضي الزراعية فيهما وهي مصدر دخل لنحو 65 ألف أسرة في المنطقة.
لكن هذه الزراعة وعبر سنوات مضت تعاني من خسائر متوالية لأسباب يلخصها المهندس الزراعي في مدينة جبلة أحمد طه بالقول” الفلاحون يخسرون هنا لأسباب عديدة فمنذ قرابة عشر سنوات، ومع إغلاق معظم الدول حدودها مع سوريا وصعوبة التصدير أصبح السوق الداخلي هو الوحيد لتصريف البضائع، ومع حجم الانتاج الزائد عن الحاجة وصعوبة الوصول لجميع المحافظات فقد أغرق السوق وأشبع بالمحصول ما أدى لانخفاض أسعارها حتى دون التكلفة الحقيقية”.
ويضيف طه في حديثه لموقع “أنا إنسان” أن وعود حكومة النظام مرارا بتصدير البرتقال السوري إلى روسيا وإيران بقيت “حبرا على ورق”، والأسباب عديدة فرغم أن روسيا تستورد كميات كبيرة من المحصول من تركيا إلا أن غياب المصانع وشركات التسويق والتغليف وحتى التخطيط الزراعي أدى لعدم مطابقة محاصيلنا للطلبات الروسية.
وبحسب المهندس الزراعي فإن سعر الصنف الأول من البرتقال لم يتجاوز هذا العام 450 ليرة بينما الصنف الثاني 200 ليرة، وبحساب أجور العمال التي باتت لا تقل عن 2000 ليرة في اليوم والنقل والمبيدات الحشرية والأسمدة فإن هذا السعر يعتبر دون التكلفة.
ونوّه طه في ختام حديثه إلى أن عدد كبير من مزارعي البرتقال اتجه نحو التخلص من أشجاره بعد تتالي الخسائر خلال الأعوام الماضية مضيفا :” قريبا اذا استمر الوضع على ماهو عليه فإن زراعة البرتقال في الساحل السوري ستصبح حتما من الماضي”.
التبغ واحتكار الدولة
من جانب آخر تأثرت زراعة التبغ أيضا في الساحل السوري التي كانت تعتبر فيما سبق من أهم المحاصيل وأكثرها ربحا، إلا سياسية المؤسسة العامة للتبغ في محافظة اللاذقية ساهمت وفق رأي العديد من الفلاحين في تكبدهم خسائر كبيرة.
وبحسب احصاءات مؤسسة التبغ في اللاذقية بلغت المساحة المخصصة لزراعة التبغ لموسم 2019-2020 حوالي ( 5500 هكتار) ويعمل بها قرابة 15 آلاف فلاح.
وتلزم حكومة النظام الفلاحين بالالتزام في المساحة المرخصة تحت طائلة المخالفة وإتلاف المساحات الإضافية المزروعة، وعليهم أيضاً أن يسلموا إنتاجها المقدر للمؤسسة بمعدل سماح بنسبة 20% زيادة أو نقصاناً تتغير سنوياً، فإذا ما نقص المحصول المسلم عن النسبة الموضوعة للسماح يدفع المزارعون مخالفات.
ولا تسمح حكومة النظام لمزارعي التبغ ببيع محصولهم إلا إلى المؤسسة العامة حيث تمنحهم قروض في بداية الموسم الزراعي وتقوم بتقييم أسعار الدخان وفق لجان تخمين عائدة لها.
لكن خلال الأعوام الماضية ظهرت العديد من الشكاوي من قبل مزارعي التبغ حول الأسعار التي تقدمها لهم، واصفين إياها بأنها زهيدة قياسا بتكاليف الانتاج المرتفعة وتدهور قيمة العملة السورية.
وبحسب ناجي ضرغام وهو مزارع تبغ في ريف بانياس فإن الأسعار التي تقدمها مؤسسة التبغ الحكومية باتت لا تغطي تكاليف الانتاج، مضيفا أن لجنة التخمين التابعة لمؤسسة التبغ طرحت هذا العام أسعارا تراوحت بين مبلغ 1700 لـ “الكيلو الاكسترا”، و400 ليرة بحده الأدنى للنوعية السيئة.
وتساءل ضرغام في حديثه الخاص لموقع “أنا إنسان” قائلا: “منذ عام 2011 تضاعفت أسعار المواد الأساسية والمعيشة والمؤسسة العامة للتبغ أيضا رفعت أسعارها بأكثر من 300% بالنسبة للمستهلكين، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للفلاح، مضيفاً:”إذا كانت الحكومة ما زالت تعاملنا وفق أسعار الصرف التي تعترف بها فلماذا تبيع للمستهلك وفق سعر السوق السوداء؟.
وبيّن ضرغام أن سعر كيلو التبغ في السوق يتراوح بين 5000-6000 ليرة للكغ بينما أعلى سعر تضعه المؤسسة هو 1700 ليرة للفلاح.
لن تحصلوا على تعويض:
من جانب آخر تحدث عضو” لجان التنسيق المحلية” في مدينة جبلة أبو ملهم جبلاوي لموقع “أنا انسان” عن خسائر كبيرة تعرض لها مزارعو البيوت البلاستيكية في الساحل السوري نتيجة السيول والأمطار التي ضربت المنطقة قبل شهرين مضيفا أن هذه الخسائر أدت لارتفاع كبير في الأسعار.
وأضاف جبلاوي المطلع على شؤون المزارعين أن التعويضات التي أعلنت عنها حكومة النظام “لم تصل حتى الآن للفلاحين الذي خسروا معظم محصولهم”.
وكان مضر أسعد رئيس “اتحاد الفلاحين” في طرطوس قال في تصريح صحفي لوكالة “سانا” التابعة للنظام بداية العام الحالي إن “ثمار جميع الأشجار على ارتفاع متر عن سطح الأرض تعرضت للتلف والعفن” مضيفا في الوقت ذاته أن الخسائر “شملت نحو 370 بيت بلاستيكي، وخراب شبه كامل لموسم البندورة، والفليفلة”.
واعترف مسؤول النظام أنّ معظم الفلاحين المتضررين بملايين الليرات لن يتمكنوا من الحصول على تعويض من صندوق الكوارث والجفاف الذي خصصته حكومة النظام “لعدم استيفائهم الشروط المطلوبة” دون تبيان طبيعة هذه الشروط.
الاتجاه نحو مهن جديدة:
لا يعتبر محمود وهو مزارع من مدينة الحفة بريف اللاذقية أن خسائر الفلاحين في الساحل السوري مؤقتة بل يرى أن هذه المهنة باتت بقوله العامي البسيط “مابتجيب هما”.
وقال محمود الذي فضل عدم ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية أن الفلاح يقع بين مطرقتين الأولى أسعار المواد المرتفعة والتي لا تراعي فيها حكومة النظام وضع الفلاح، وبين سعر السوق الذي تضغط فيه حكومة النظام ولجان التموين على خفضه لأجل المستهلك الذي انخفضت قدرته الشرائية، ما يجعل الفلاح هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة.
ونتيجة لهذا الوضع اعترف محمود وهو مزارع حمضيات أن عدد كبير من الفلاحين ترك هذه المهنة، واتجه للتجارة والتوظيف أو العمل بمشاريع صناعية أخرى مضيفا أن الزراعة أصبحت مهنة ثانوية لاسيما عند الشبان.
وأكد المزارع الخمسيني في حديثه الخاص لموقع “أنا إنسان” أن تراجع الزراعة بشكل عام سيكون له نتائج كارثية على البلد لأنها المادة الخام الوحيدة المتبقية، مضيفا بشكل ساخر: “يبدو أن حكومتنا تفضل استيراد كل شيئ هذا ما يحبه تجار السوق، وقريبا سيحصل”.
وكانت حكومة النظام السوري أقرت في بداية شهر آذار زيادة جديدة في أسعار بيع أسمدة أساسية للزراعة بنسبة متفاوتة، تبدأ بـ41% وتتجاوز الـ100%..
ووفق التعرفة الجديدة التي ستؤدي لتدهور وضع الفلاحين بشكل أكبر تم رفع سعر طن أسمدة السوبر فوسفات إلى 304.8 آلاف ليرة من 151.2 ألف ليرة، أي بنسبة تزيد على 100%، كذلك بالنسبة لسعر الطن من أسمدة “اليوريا” بنسبة 46%، إذ تم رفع الطن إلى 248.3 ألف ليرة بدلا من 175 ألف ليرة.
حسام الجبلاوي