ابن اخي في حزب الله وابني في الجيش الحر وأنا بينهما أواسي نفسي : الدم ما بصير مي
دلال زين الدين
عندما قررت الإنتقال من الضاحيه الجنوبيه في بيروت إلى مدينة حمص السورية ، لم اكن اعلم أن ثمة احداث كبيرة ستكون بانتظاري هناك ، أحداث ستقلبني رأسا على عقب ، وأن ثمة ثورة تجهز لي هذا الكم من الإختبارات القاسية والمفجعة .
إنه لعبأ كبير أن يختارني القدر ، أنا إبنة جنوب لبنان والمفاهيم الخمينية الصنع ليلقي بي في أحد أكثر الأحياء الثائرة ضد نظام الأسد وهو ( حي جورة الشياح ) .
فجأة انتبهت أني شيعيه ، وأن هذا المكان المكتظ بالثورة لا يمت لي بصلة ، كيف يثور هؤلاء ضد نظام علوي ؟
هكذا كنت اقزم الأحداث في بداية الثورة ،
ورغم شعوري بالغربة في ذاك الحي ، وبين هؤلاء الذين تحولوا فجأة من أناس عاديون جدا إلى ما بشبه بركان ثائر يصعب احتواءه او التحكم به ، إلا أنه كان هناك سبب خفي يجبرني على البقاء بداخله .
في البداية كنت قد حسمت امري بالوقوف بين صفوف المدافعين عن الأسد ، كنت اشعر بالفخر وأنا أدافع عنه وكأني أدافع عن الجنوب ، ولولا ذاك الحاجز اللعين الذي نصبيته قواته عند أول الزقاق الذي كنت أقيم فيه لبقيت حتى الأن اهتف مع مؤيديه : بالروح بالدم نفديك يابشار .
كان موقع ذاك الحاجز الإستراتيجي بمثابة عقوبة يومية لي ، إذ كنت مجبرة على التأقلم مع مشاهد الموت وكأنها حدث عادي ، ففي كل مرة علي أن أتقبل فكرة أن هناك واحد من أبناء حمص سيتم قنصه وهو يعبر أحد الطرق المطله على ذاك الحاجز الأسدي ،
ما إن كنت أسمع صوت القنص حتى أسرع إلى تلك النافذةف الحقيرة لأزيح طرف الستارة بحذر شديد واروح أتلصص على جثة جديدة لا أعرفها ، اراقبها وهي تنزف حتى الموت دون أن يجرؤ أحد على سحبها أو إنقاذها قبل أن تتلفظ أنفاسها الأخيرة .
في البداية عندما كنت أشاهد تلك الجثث ، كنت اكتفي بالغضب والبكاء ، لكن مع مرور الوقت لم أعد أشعر بشيئ ، حتى أني لم أعد أبكي ، صرت اراقب الجثة فقط وأخمن كم عمرها ، وأحقد على كل شيئ .
كانت تلك المشاهد ترافق مخيلتي طوال الليل ، تشاركني ارقي ، حتى اني تخيلت تلك الجثث وهي تخلع باب غرفتي وتصرخ بي : ألم تملي من التفرج علينا ؟
جثة واحدة من تلك الجثث كانت كفيلة لإقناعي بأن ذاك القناص ومن يقف خلفه لا يمكن ان يمتوا للإنسانية بصلة ،
جثة واحدة من تلك الجثث كانت كفيلة بنسف كل تلك الحيادية والرمادية التي حاولت التمسك وأنا أتلصص على ذاك الحاجز الحافل سجله بجرائم القنص المتعمد ،
تذكرت إبني الذي كان يؤدي خدمته العسكريه بين صفوف جيش النظام ،
ماذا لو نقلوا له عدوى الإجرام وأقنعوه بأن أبناء مدينته هم مجرد ( مندسين وعملاء ) وأن القضاء عليهم هو واجب وطني ؟
عندما أقنعت إبني بالإنشقاق عن جيش الأسد ، كنت كمن تكفر عن ذنبها بالتفرج على تلك الجثث دون أن تحرك ساكنا ،
كانت عملية إنشقاق إبني أشبه بمعجزة حقيقة في ذاك الوقت ، لينظم بعدها للجيش الحر بعدما تمنيت عليه الإبتعاد عن حمل السلاح والإكتفاء بتوثيق جرائم الأسد وتقديمها للمنظمات الحقوقيه ،
في الحرب يحدث أن تصبح مهمة إحصاء الجثث والجرائم مهنة عادية تتقاضى عليها راتبا شهريا .
كنت أنا احصي الجثث على ذاك الحاجز في مدينة حمص بينما إبني يقوم بتصوير جثث أخرى لأناس اخرون في ريفها الغربي ،
وبينما نحن منشغلين بإحصاء فجائعنا ، إتصال مفاجئ من إبن أخي يخبرني فيه أنه جاء لسورية بمهمة جهادية لحماية المقامات والقضاء على ( المندسين ) فيها ،
كانت دموعي تتدحرج وحدها وهو يسألني عن رفيق طفولته ( إبني المنشق ) وعن أخبار خدمته في جيش الأسد ،
لم أجرؤ على إخباره أن رفيقه انشق عن جيش النظام وانظم لأولئك المندسين الذين جاء من لبنان خصيصا للقضاء عليهم ،
فجأة خفت منه ، تخيلته بسلاحه وبدلته العسكريه وبوطه المارينز على ذاك الحاجز الأسدي ،
لم أنم تلك الليله بعد أن اخبرني أنه سيزورني خلال أيام قليلة ،
يا ويلي ، أي حرب قذرة هذه ؟
كيف سأخبره أننا جميعنا أصبحنا على لائحة ( المندسين ) ؟
كيف أقنعه أن عيناي المتورمتين من البكاء على تلك الجثث لم تعد تصدق أكاذيب قناة المنار ؟
ماذا لو طلب مني أن يلتقي برفيقه المنشق وتفاجأ به وهو يهتف : ثورة ثورة حتى النصر ….فشهر عليه سلاحه وصرخ قائلا : لا نصر إلا نصرالله ،
أي فاجعة هذه ؟
يا ابن أخي ، عد من حيث أتيت ، فلا وقت لدينا للزيارات ، نحن منشغلين بإحصاء فجائعنا ، منشغلون جدا ،
عد وأخبر سيدك أن حمص ليست تل أبيب وأن اهلها ليسوا هم من قتلوا الحسين عليه السلام ..
بالله عليك أخبره أن صورته التي علقتها في صدر المنزل سقطت أرضا بعد ان اخترقتها شظية أسدية وشوهت لها ملامحها وأني كلما أسرعت لأتلصص على ذاك الحاجز دست عليها دون أن أشعر بالذنب .