أخبار

“تيدكس” وأحلامُ جيلٍ ضائعة

 

“عزيزي مولود برج السرطان، تتمتع بصحة جيِّدة وتشعر بالنشاط، موعد عاطفي بانتظارك، مديرك في العمل في مزاجٍ مستقر اليوم؛ لا تتردد في طلب زيادة على مرتبك منه”

لسنا في وارد نشر صفحة الأبراج هنا، بل لتذكيرك على عجل بما اعتدت سماعه صباحاً في طريقك إلى العمل الذي لا يملك مديرك فيه أمر زيادة مرتبك ولا تدري من أين سيأتي ذلك الموعد العاطفي المزعوم. لكن وفي غفلةٍ منك ستنجذب للكلام وإن لم تكن على أي درجة من الإيمان بالأبراج، لتبدأ البحث في وجوه ركاب باص النقل الداخلي المتعبين عن فتاةٍ تجعل خبر الموعد العاطفي حقيقةً، وتلهو بحلمك ذلك ريثما تصل إلى عملك، حيث ستنسى كل ما سمعت.

لكن الأمر اختلف اليوم ولم يعد للأبراج الوقع ذاته على مسامعك، بعد أن اعتدت تكرارها للتوقعات المزيَّفة عينها. وفي عصر التكنولوجيا وتطور العلوم بتَّ بحاجة إلى ما هو أكثر إقناعاً وأقل ابتعاداً عن المنطق العلمي كي تصغي إليه. كذلك ومع تبدُّل موعد إصغائك للراديو صباحاً بموعد تصفُّحك للمواقع الإلكترونية ليلاً وأنت على حافة النوم متعباً من تفاصيل الحياة، سيأتي ذلك الحل الجديد لينتشلك من واقعك الرث بأقل من ثمانية عشر دقيقة، إنه برنامج “تيدكس”.

انطلق برنامج “تيدكس” عام 1990 في كاليفورنيا تحت شعار “أفكار تستحق النشر” بغية الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الناس، وبدأ باستضافة مفكرين وعلماء على سوية عالية، بالإضافة إلى شخصيات حقَّقت نجاحاً ملفتاً أو لها شهرة عالية مثل بيل غيتس ومؤسِّسي غوغل لاري بيج وسيرجي برين. لكنه سيتوسع فيما بعد كحال أي برنامج يسعى للانتشار بعد تحقيق شهرة ونجاح، ويتجه أكثر للكم لا النوع، ليستضيف أشخاصاً يتحدثون عن أفكار خاصة بهم يرون فيها القدرة على إحداث تغيير بنشرها بما يتوافق مع إيمان تيدكس بقدرة الأفكار على تغيير العالم.

ليصل حال البرنامج بعد سنوات إلى مرحلة يسمح فيها بتمرير أفكار خاطئة علمياً أحياناً، وأخرى ذات قيمة سطحية تم تظهيرها بشكلٍ جذاب، (يمكن الاطلاع أكثر على مصادر في الإنكليزية لعدم توفر أي نقد أو نقاش حول البرنامج بالعربية، وذلك لتدقيق كلامي إذ لا مجال للخوض في شرحه هنا).

ويصف البعض خُطب تيدكس بأنها تشبه خُطب تحفيز المدراء التنفيذيين، والتي تدور في حلقة تصميم النظام القائم نفسه وإعادة ترتيبه دون نقده، كقدرٍ قائم عليك أن تبدع انطلاقاً منه، وكأن القضية هي نقص في النقاش أو في طريقة إيجادك للثغرة التي ستُخرجك من حالتك، لكنها لن تؤدي سوى إلى تغيير موضعك في التصميم ذاته. فالمشاكل ليست ألغازاً يتوجب البحث عن حلها في فكرة لمعت برأس أحدهم على غفلةٍ من العالم ولا تحتاج سوى إلى تمريرها إلى الناس ليقتدوها. والحلول الفردية لا يمكن أن تكون مثالاً يُحتذى للحلول المجتمعية وللعمل الجماعي، فالقضية ليست قضية كيف نلعب اللعبة.

يضيف (مارتن روبنز) في مقالته: “”The trouble with TED talks “في تيدكس كل شيء ملهم ورائع، والأفكار ليست محلاً للنقد… نهج إنجيلي، لا صوت للشكوك، مع وجود أسهل جمهور في العالم يتفاعل حيث يجب أن يتفاعل، وخلفيات مظلمة تُظهر المتحدث أشبه بآلهة يونانية معروضة في المتحف، ليمر الكثير من الأخطاء وعدم الدقة دون نقد”

لسنا في وارد التعمق في نقد تيدكس ودعوته في أهمية نقل الأفكار لأهميتها في التغيير، إذ يكفي النظر حولنا في العالم وأزماته الكارثية التي يعيشها اليوم رغم كوننا في عصر سرعة نقل الأفكار، لندرك جدوى تلك الدعوة.

اليوم منصة تيدكس في سوريا وهذا ما يهمنا.

اعتاد السوريون أن مصير من يعبِّر عن رأيه هو الوصول إلى (منصة تدمر)، حيث يضيع في غياهب السجون كل من قرَّر التعبير عن رأيه أو الدعوة لتنظيم عمل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، إذ ينحصر الشأن العام بيد سلطة استبدادية صادرت كل مساحات الحرية وحرمت المجتمع من الخوض في الشأن السياسي لما يشكِّله من تهديد لاستقرارها.

لكن العام 2011 سيشكِّل نقطة فارقة في خروج المجتمع إلى المشاركة في الشأن العام، وسيؤدي ذلك الخروج إلى تهديد وجود السلطة التي ستستنفر بكل إمكانياتها وتحالفاتها للقضاء على ذلك الخروج العام إلى الشأن العام.

لكن ورغم كل القمع من السلطة فقد فرض الحراك الشعبي مستوىً أعلى لحرية الفرد رغماً عن السلطة، وقد صار بإمكان السوريين اليوم الخوض في كلام كان محرماً بالأمس (بالمناسبة هذا ما لم يلحظه سياسيو المعارضة في الخارج إلى الآن)، بالإضافة إلى ذلك فقد اخترقت البلاد -من جملة ما اخترقها من جيوش وتمويلات وتدخلات خارجية- اخترقتها أيضاً منظمات وأفكار دخلت مع التوجهات السياسية الكثيرة الساعية لإعادة رسم تنظيم المجتمع السوري، بما يخدم مصالحها. وفي ظل هذين التغيرين دخلت منظمات العمل المدني، وظواهر مثل تيدكس والباحثون السوريون (في بلاد تفتقر إلى مراكز أبحاث حقيقية)، وورشات تطوير الذات… إلخ.

لكن تيدكس وغيرها تظهر وكأنها خارج تلك المعادلة، بل تظهر وكأنها تبحث عن الحلول بدءاً من الصفر، أو كأن السوريون دون ذاكرة وفي حالة من السكون التي ينتظرون فيها من يحرِّكهم ويقترح عليهم الأفكار الفذة، لا في حالة صراع له مسبباته الواضحة وقوانينه الواضحة وجدله الواضح، كصراع بين طبقة مضطهَدة تحتوي السواد الأعظم من الشعب السوري، وطبقة مسيطِرة تحتوي السلطة وحلفائها ومعارضيها الذين يصارعونها على السلطة لا على النهج، لكن الحرب التي وصلنا إليها جعلت التناقض ضبابياً بل ثانوياً.

من هنا فإن أي جهة تخدم توضيح تلك الجدلية فهي تخدم مصلحة السواد الأعظم من الشعب السوري، وأي جهة تسعى لتمويه تلك الجدلية وتمييع الصراع والبحث عن حلول فردية أو استسلامية أو شكلانية فهي تخدم مصلحة أعداء الشعب السوري ومستغِليه.

وفي نقطة أخرى فإن فتح المجال أمام إمكانية دخول ظواهر مثل العمل المدني وتيدكس، لا يفسِّر بشكلٍ كافٍ سبب دخولها، بل علينا أن نطرح سؤال آخر أيضاً وهو ما سبب تلقفها، أو ما سبب انتشارها حين دخلت.

كما ذكرنا أعلاه فإن عقوداً من القمع لم تكن لتسمح بفتح المجال أمام الشباب لتحقيق ذاتهم، وسيبحثون عن أول فرصة تسمح لهم بذلك مع بدء الحراك الشعبي عام 2011، لكن عفوية الحراك ومصادرته من قبل معارضة لا ترى في المتظاهرين سوى وقوداً لوصولها إلى السلطة، بالإضافة إلى قمع السلطة غير المحدود للمتظاهرين، سيكبح الحراك الشعبي، ويُخرج الصراع من دائرة الصراع الداخلي إلى دائرة الصراع الدولي الذي سيمسي الشعب معه متفرجاً وضحية لا فاعلاً ومؤثراً.

من هنا ستظهر مفرزات جديدة للصراع مثل: نازح، لاجئ، مهجَّر، جريح، شهيد، معتقل، مخطوف… إلخ. وسينخرط الكثير من السوريين في الأدوار التي يسمح لهم بها الواقع الجديد، وضمن الإمكانيات الجديدة المتاحة للتعامل معه مثل: داعم نفسي، موظف هلال أحمر (أو متطوع كما يُقدمون أنفسهم)، ناشط إغاثي، ناشط سلم أهلي… إلخ.

وفي ظل ذلك النكوص وما يحمله من الإحساس بالضياع وخيبة الأمل وفقدان الهدف العام وفقدان الثقة بالمستقبل، وغياب مشروع وطني يجمع السوريون حوله ويؤطر تنميتهم. سينكفئ الأفراد إلى البحث عن الخلاص الفردي والبحث عن أساليب هروب من الواقع تمنح أقل مقومات الاستقرار لصاحبها.

من هنا لجأ السوريون إلى البحث عن طرق بديلة لإيجاد الحلول لوضعهم الكارثي. فبدل الخوض في معترك العمل السياسي وما يجلبه من ويلات لجأ البعض إلى العمل المدني والإغاثي وتم تحويله إلى ضفة خلاص يُمنع نقده بما يحمل من نقدٍ لذاتٍ لاقت هدفها واستقرارها، ولجأ الكثير من الأفراد في طريق بحثهم عن الهرب من ويلات الواقع وما يسببه من عدم استقرار نفسي إلى الانغماس في متع استهلاكية مؤقتة تمنح الذات هرباً مؤقتاً. فيما هرب البعض إلى الإدمان لما يخففه من الشعور بالواقع وقسوته، أو توجهوا إلى ظواهر مثل التديّن أو التصوف وطريقة العيش النباتية ومختلف الروحانيات التي تعطي الفرد إحساساً بإيجاد ذاته بعيداً عن الواقع المأزوم غير المحتمل. أو لجأ البعض إلى البحث عن طرق ابتكارية فوق طبيعية لتنمية الذات كورشات البرمجة اللغوية العصبية وما يتفرع عنها. في حين لجأ آخرون إلى البحث عن هربٍ مكاني من البلاد كي يبتعدوا عن أسباب عدم الاستقرار كاملةً.

من ضمن جملة تلك الطرق البديلة يأتي برنامج تيدكس كأحد برامج تقديم الحلول غير التقليدية للباحثين عنها، وللباحثين عن إثبات نجاحهم وأسلوب خلاصهم بتقديمه لعامة الناس، وتخريجه بشكل مثالٍ ناجحٍ يُقتدى.

وفي ظل ذلك التوجه العام نحو الحلول البديلة لا بد لطارحي تلك الحلول من تدعيم النظرة العدمية التي لا ترى أي جدوى في كل ما يتم اتباعه من جهد منظم لبناء الذات أو العمل، وبالتالي عدم وجود أي عمل حقيقي يمكن اتباعه، مما يُلغي وجود التفاضل بين الحقيقة ونقيضها، تحت شعار كلُّ شيءٍ هباء. فيغدو البناء والتخريب والتجريب سَواء ضمن وضعٍ لا معايير واضحة فيه، ويمكن ملاحظة انعكاس ذلك على الفن، والنشاطات الشبابية، والمشاريع الصغيرة.

وبرنامج تيدكس هو إحدى تلك المحاولات الشبابية للخروج من أزمة الواقع، لكنه وفي حين يمنح تقديم البعض لحلول فردية يمكن تعميمها، فهو يقع في خطأ أننا بحاجة إلى الحلول الجماعية لا الفردية، ولا يمكن تعميم الحلول الفردية على المجتمع، ولا يمكن للمجتمع النهوض دون مشروع وطني ودولة مؤسسات وقانون، مهما امتلك من نجاحات فردية. ذلك وحده السبيل إلى توظيف طاقات المجتمع في خدمة أبنائه جميعاً، وفي دعم أعمالهم وأفكارهم الناجحة بوجود بنية تحتية تسمح بذلك وتقوده، لا البحث في استثناءات البعض الفردية عن طرق للحل الجماعي، بما يمهِّد أيضاً لصعود فئة ذات تمايز اجتماعي محدد، وحرمان آخرين منه.

ومن ناحية أخرى فإن تيدكس إذ يقدم نفسه كطارح حلول ومنصة لنشر أفكار ناجحة، ينسى أنه جاء كما ذكرنا سابقاً نتيجة لعمل جماعي شعبي سمح بتخفيف قبضة السلطة على مفاصل حياة المجتمع السوري، أي أن معتلي منصة تيدكس سيحاضر عن النجاح على من جاؤوا بتيدكس وأوجدوه.

يعتقد الكثيرون أن فتح المجال أمام المصالح الفردية هو السبيل إلى تحقيق النجاح، فما الذي يحتاجه الفرد سوى حرية التجربة والعمل حسب رأيهم. لكن مجموع المصالح الفردية لا يشكِّل مصلحة المجتمع، وقد نهضت دول عديدة سابقاً بمجتمعاتها على الرغم من قمعها للمصلحة الفردية.

نهض الاتحاد السوفييتي ببلد زراعي ليجعل منها بلداً صناعياً متقدماً غزا الفضاء رغم الديكتاتورية التي تمت ممارستها، في حين تراجع وضع المجتمع الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جماعةً وأفراداً. وفي مثال آخر فإن الصين الناجحة التي نراها اليوم لم تكن لتنهض لولا ديكتاتورية (ماوتسي تونغ) في القرن المنصرم التي فرضها للنهوض باقتصاد البلاد.

حققت فرنسا نهضة اقتصادية في منتصف القرن العشرين، ليأتي بعدها تركيزها على العلم بعد أن حققت بنية تحتية مستقرة للبلاد، وهناك غيرها من الأمثلة كسنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية، على عكس ما يظن البعض بأن التعليم يسبق النهضة الاقتصادية ويؤسس لها.

تبسيط الأفكار وقصص النجاح ليسهل ابتلاعها دون مضغ لا يعني طرحها للفائدة بالضرورة وتوظيفها في المكان الصحيح. ولا تكتمل النجاحات الفردية دون وجود بيئة ضامنة لنجاحها وفي (ستيف جوبز) مثالاً لرجل من أصلٍ سوري نجح في المشاركة في تأسيس شركة آبل واستلام مديرها التنفيذي، فهل كان سينجح في تحقيق تراتبية النجاح تلك لو كان في بيئة غير مواتية كسوريا؟

وكوننا الآن في أجواء المونديال فقد شاهد الناس نجاح اللاعب محمد صلاح في الأندية الأوروبية بلعب دورٍ مهم في نجاح أنديته، في حين لم يستطع تحقيق ذلك حين لعب في فريقه المصري المتواضع الإمكانيات، ولم يقدِّم نجاحه الفردي مساهمة للفريق، فخسر الفريق رغم وجوده فيه.

أخيراً، في الوقت الذي يفتقد فيه العالم إلى وجود مثقفين منتميين لقضايا شعوبهم وسيطرة التكنوقراط عوضاً عنهم، يغدو من الطبيعي لهاث الأفراد وراء اقتناص الفرص ومحاولة إتقان شروط اللعبة، وهو ما أتقنه من جاؤوا بتيدكس إلينا ممن اعتادوا الانبهار بكل ظاهرة غربية كما هي لمجرد أنها غربية، ونسخها في واقعنا كما هي دون تكليف أنفسهم عناء البحث عن ملاءمتها لمتطلباتنا. وإلى حين يأتي ذلك اليوم الذي يلتمس فيه الناس أين يكمن الحل، سيستمر هؤلاء في اعتلاء المنصات دوماً، وعليك أن تملأ وقت ذهابك إلى العمل بهم كما كنت تملؤه بسماع فقرة الأبراج ريثما تصل إلى مقر عملك، حيث ستبدأ بالعمل بعيداً عن وهم أحلام اليقظة

خالد الخطيب

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *