حكاية عربة فول … كانت بديلاً عن الأمم المتحدة
عندما أُجبرت عائلتي منذ عامين على الخروج من ريف حماة إلى لبنان، كنت أبلغ من العمر 9 سنوات، ولم أستوعب حقيقة ما يجري من حولي. لكن فور أن وصلت إلى لبنان بدأت تدريجياً في فهم الواقع الذي سأواجهه مع عائلتي.
اليوم أصبح عمري 11 عاماً، وأصبحت أنا المسؤول الوحيد عن مصروف عائلتي المكونة من أبي وأمي وأخي؛ أبي الذي أجبره المرض على ملازمة الفراش وأمي ربة منزل وأخي متزوج وهو بالكاد قادر على تأمين مصروف عائلته، بل إنني أحياناً أقدم له جزءاً من المال الذي أجنيه لقاء عملي على عربة الفول التي تعتبر المصدر الوحيد لرزقي.
قد يُفاجأ الكثيرون عندما يقرأون أن عمري 11 عاماً فقط وأنا المسؤول عن عائلتي، لكن هذا الأمر بات عادياً في شوراع لبنان وتحديداً في مناطق المخيمات السورية، حيث تجد الأطفال السوريين منتشرين في أغلب المحال. منهم من تراه يحمل مواد البناء على ظهره ويصعد للطوابق المرتفعة والخطرة مقابل أجر لا يتجاوز 10 دولار يومياً. بإمكانك أيضاً الدخول للمعامل الصغيرة لتشاهد ظروف العمل التي أُجبر الأطفال السوريون (من الذكور والإناث) على العمل بها من دون أي رعاية صحية، وباستغلال واضح لأوضاعهم الصعبة.
بالعودة إلى قصتي … إسمي أسامة من ريف حماة، أعمل من الساعة 9 صباحاً وحتى 6 مساءً في بيع الفول والذرة على عربة أتجول بها بين الحارات والأزقة، وأحاول قدر الإمكان الإبتعاد عن أي مراكز لعناصر البلدية أو الدرك اللبناني حتى لايتم مصادرة عربتي وأفقد مصدر رزقي. في المساء أعود إلى الخيمة وهي منزلي الذي أعرفه جيداً ونشأت فيه، في حين أن منزلي الحقيقي في ريف حماة لا أعلم عنه سوى قصص ترويها لي والدتي وبقايا صور لا تتجاوز 8 صور ضمن بعض الذكريات التي ذهب معظمها أدراج الرياح.
مفوضية الأمم المتحدة في بيروت والتي تعتبر المسؤولة عن وضع أسرتنا أمام المجتمع الدولي، قامت بقطع المساعدات عنا وفصلنا من برنامجها، رغم أن والدي لايستطيع العمل ووالدتي أيضا تعاني من أمراض في القلب والضغط وتحتاج إلى دواء إسبوعي، وأنا طفل قاصر دون السن القانوني. وحين سألنا عن السبب كان الجواب :”عدم توفر موارد مالية لتقديم المساعدات لللاجئين في لبنان”، وبالتالي أصبحت عربة الفول التي أعمل عليها هي البديل الذي يعوّض عن تمويل الأمم المتحدة ليؤمن مصدراً خجولاً للدخل لعائلتي.
منذ سنوات لم أذهب للمدرسة، ولم أحمل الحقيبة على ظهري، لكنني أشاهد يومياً عشرات الأطفال وهم يذهبون للمدرسة وعند نهاية الدوام أنتظرهم وأبيع لهم الفول والذرة وأسمع أحاديثهم عما حدث معهم خلال يومهم الدراسي وكيف أنهم متعبين من حجم الواجبات المدرسية الموكلة لهم من قبل أساتذتهم، كما أن البعض منهم يأتي لي باكراً عندما يهرب من مدرسته ليأكل الفول ومن ثم يذهب إلى أقرب مكان للعب واللهو لحين إنتهاء وقت المدرسة ليعود لمنزله ويجد الطعام جاهزاً أمامه كأي طفل عادي.
في السابق كنت أحسدهم وأحياناً أتألم بداخلي، لكن مع مرور الوقت تغلبت على هذا الألم وأصبح كسب الرزق وتأمين الدواء لوالدتي ومصروف عائلتي هو الأهم، مع مواساة نفسي دوماً بأنني لست وحيداً وأنما مع أكثر من 70 ألف طفل سوري ومنهم من يعمل بظروف أقسى من ظروفي، ولا أنكر أنني احتفظ بكتب تركها بعض الأطفال على العربة خلال تناولهم الفول لدي، وأحاول أن أتعلم ما بها وحدي عندما أعود للخيمة مساء، باستثناء كتاب فيه كلمات فرنسية وإنكليزية وهي لغات غريبة بالنسبة لي.
قصتي هي قصة عابرة بين آلاف القصص في مخيمات لبنان، لا أحد يكترث لها بدءاً من الأمم المتحدة ووصولاً إلى المنظمات الإنسانية التي نسيت طريق مخيماتنا فتوقفت عن إرسال العاملين بها إلينا؛ فقط يأتي الجيش اللبناني الذي يقتحم ليلاً أوعند طلوع الفجر مخيماتنا ويطلب مني الوقوف إلى جانب الخيمة مع أمي ليدخل ويفتشها للتأكد إن كان لدينا مواد ممنوعة كالسلاح أو المتفجرات. وحين ينتهي التفتيش يصرخ أحدهم بوجهي قائلاً:” فوت ع الخيمة وما بدي اسمع صوتكن حتى نطلع “.
في النهاية لابد أن أوجه الشكر الجزيل لعربة الفول … فهي تابعت عمل الأمم المتحدة كما ذكرت سابقاً فكانت البديل عنها في تقديم المساعدة المالية … لعائلتي.