نقل دم ..
*حلا رجب
يريدُ أن يرى وجه قاتله في مكان ما ، قريبا من هنا ، حتى لو كان بعيداً، ذلك لا يهم ، سيستمر بالمشي حتى يصل إليه ، لا تبدو له مهمة مستحيلة رغم كل العوائق التي تحيط به ، لكنها رحلة عليه أن يقوم بها قبل كل شيء ، وقبل لا شيء أيضاً. هذه الإرادة القاسية هي التي جعلته يفتح عينيه و يرى نجمة واحدة في السماء ، دون صعوبة استطاع أن يميزها و أخذت الروائح تعبق داخل أنفه ، نهض في محاولة لإبعاد ما تيسر له ، وجه القاتل يتلاعب به ، يشعر بذلك ، ليس له ملامح لكنه يستطيع سماع صوت ضحكاته البعيدة . كان الليل موحشاً ، شعر بالحر و تصبب جبينه عرقا ، لم يكن صيفاً ، لم تكن تمطر .
بدأ يسمع صوت خطواته المتعثرة تتجه إلى القهقهات، تبدو هذه الأخيرة فضائية ، تأتيه من كل مكان ، يحاول جاهداً أن يركز ، يغلق عينيه و يبدأ بفركهما ، ينجح في تحديد وجهته ، يحاول العبور بين الجثث المتكومة كأوراق خريف أميركي ، رشقات رصاص من بعيد تأتي باتجاه الثقوب الباردة . يضحك ، و يضحك : لا أحد هنا لاستقبال الرصاص أيها المحتفلون ، يا ضيوف سهرة الليلة ، أما أنا قررت ألا أموت الآن ، ينبغي أن أشوه ذلك الوجه أولاً . تتساقط منه قطرات من الدم كعلامات غير استثنائية ، يضع يده على صدره ، ثمة جرح كبير ، يضغط فيغطي الدم أكمام قميصه ، تذكر أمه و ازدادت رغبته بالانتقام ، تذكرها تكوي له هذا القميص قبل الخروج من المنزل ، قشرت له أيضاً برتقالة وتركتها فوق الطاولة في الفناء الخلفي و قفلت مغادرة نحو باب البيت ، تسارعت خطواته ، وفي صدره نشيج عميق ، أعمق من هذا الجرح ، حاول أن يمسك بالبرتقالة و يقضمها ، تبين له أنه فقد اثنين من أسنانه الأمامية ، و راح يضحك مجدداً ، و عصير البرتقال يملأ فمه .
تناهى إلى سمعه صوت سيارات الإسعاف القادمة من الطريق الرئيسي ، نظر بهلع خلفه و هو ما يزال مطبقاً على جرحه و بدأ بالركض و هو يغني : لن يمسكوا بي ، لن يمسكوا بي !! ألقوا القبض على هذه الجثث اللعينة و فرقوها ، أما أنا فسأعود حين انتهي ، لن تمسكوا بي !! تناول من فوق الطاولة ، السكين التي قشرت الأم بها برتقالته ، ووضعها أمام بطنه ، و بدأ يُصفر ، شعر بقوة أكبر فهو رغم هروبه هذا يمتلك سلاحاً سوف يكون فعالاً عندما يحتاجه ، سيطعن به رأس سيارة الإسعاف ، و سيقطع به مصل المضادات الحيوية ، و سيثقب كيس الدم الذي سينقل له ، و سيقطع الحبال التي سيربطونه بها بعد أن يقاومهم ، السفلة المجرمون . لو أن أمي لم تدخل إلى البيت ، أحتاج وجهها ، تمنى ذلك و أجهش بالبكاء ، حاصره ضعفه ، رغبته المفاجئة في حنين عارم ، قال : أريد أمي فقط ، سقطت هوية القاتل ، أضاع الملامح .
أغمض عينيه على دموعه مطولاً ، عندما فتحهما رأى ضوءاً يتدلى من السقف باتجاهه ، ضوءاً أبيض ، بدلات بيضاء تتحرك بكثافة بجانبه ، كيس معلق من الدم القاتم مربوط إلى ساعده ، و جهاز لقياس الأوكسجين ، يبدو و كأنه لا يعمل .
كانوا يقولون بأنهم وجدوا هذا الرجل بالقرب من مجزرة ، كان بحاجة لنقل الدم لكن ذلك لم ينجح ، وجه قاتله ينظر إليه ، ملامحه واضحة جداً ، هادئ و مبتسم ، يضعه في خندق صغير و يلقي بتراب المدينة خلفه .
* كاتبة سورية