أخبار

حمص … وحكايتي مع جدرانها المهدمة

منى رافع

قلت لك، مضت أكثر من سنة منذ وطأتها قدماي آخر مرة، لم يعد بإمكاني زيارتها بعد رحيلك، قرأت مرة، أن الإنسان حيث يعجز عن أخذ حقه من عدوه الحقيقي، تقوم ميكانزمياته النفسية باختلاق عدو آخر حتى لا يتراكم الألم في قلب الإنسان ويعود غير قادر على السيطرة عليه، في حالتي، كانت جدرانها، ودمارها، وحزنها في الخراب هو العدو الذي يتكأ عليه ألمي.
لم يبدُ عليك أي تأثر أو اهتمام بما قلته، بل تابعتَ إصراركَ بأن علي زيارتها لأنها تحنّ لنا، “حمص القديمة”، ولأنك تحبها ولأننا اجتمعنا بها ذات ثورة، “لكنها المدينة الخائنة، ألا تصبح المدن خائنة حين لا تحمي أبناءها، ولا تمنعهم من الرحيل؟”، أجبتني وبالكاد يبين شيء من ملامحك :”هل كان على الجدران أن تنثني فوق السكان وتحميهم مثلا؟، أم كان على البيوت أن تمشي وتختبئ في الغابات بعيداً عن غدر القذائف ووحشية المقتحمين؟، الخائن ليس المدينة، بل من سبب رحيل أبناءها”.
أن تسكن في حمص، أن تعيش بين أبوابها السبعة، التي ما عادت سبعة، والتي ما عادت محفوفة بهذا اللوازم الكلامية المقيتة عن عزتها وشموخها بعد سقوطها، أن تعيش فيها، يعني أن تكون غريبا بين أبنيتها، وبين أناسها، وبين جدرانها المتهالكة التي مازال كثير منها يحكي القصص التي يحاول الجميع أن يدير وجهه عنها، وأن يدعي أنها لم تحدث.
يقول الشاعر بسام حجار في وصف الجدران بأنها تروض نفسها للتداعي، لأن من طبع الجدران الوقوف ثم التداعي، ثم الوقوف”، لكن جدران حمص، توقفت عند مرحلة التداعي، ولا يبدو أنها قريبة على الوقوف.
قال رجل الأمن الذي يرتدي القميص الأزرق وبنطال الكاكي للمرأة المتعبة: وأين ابنك الأول، “في الفرقة 102، يخدم في الجيش منذ ثماني سنوات”، “طيب وابنك الثاني”، “موظف في معمل الأدوية”، “والثالث”، صمتت للحظات قبل أن تجيبه، كذبا، بأنه مسافر في الإمارات، هزّ الرجل المخيف المبتسم وجهه وأخبرها بـأن على ابنها المسافر زيارة السفارة في الإمارات لأن اسمه مدرج في قوائم المطلوبين للاحتياط،  أكدت له المرأة بأنها ستفعل، وانتظرت  طويلا وهي تعرض بقية الأوراق،  قالت لنا عندما عادت بأنه بقي لها الذهاب لفرعين أمنيين  قبل الحصول على “ورقة طلب العودة” ، بصق الزوج العجوز الغاضب على الأرض، وقال هل نحن فلسطينيون نطلب من اليهود ورقة طلب العودة كي نستطيع العودة لبيتنا في مدينتنا ووطننا.
ما يميز المدن بعد السقوط، أن يصبح الذل هو سماؤها وهواؤها، ولقصص الناس الذين حاولوا العودة لبيوتهم عبرات وقصص تبدأ بورقة طلب العودة التي يجب على الجميع أن يستخرجها قبل أن يستكمل إجراءات العودة الطويلة، والموافقات الأمنية والإثباتات الأخرى للرجوع، ولا تنتهي بالذين وجدوا بيوتهم قد أخذت من قبل بعض الجنود الذين سكنوها هم وعائلاتهم، لا سيما تلك التي تقع على خط التماس مع الأحياء المؤيدة، أ ملاك البيوت المهجرون الذين قاموا بتأجير بيوتهم، لأن في ذلك خيار أفضل من السكن بجانب أناس لا يعرفونهم، بعضهم غريبون تماما عن المدينة، وبعضهم الآخر تثار حولهم شبهات لا تتفق وطبيعة السكان، وكيف ذلك؟، سألتُ المرأة المتشحة بالسواد التي تبحث عن بيت لتسكن فيه إذ ينوي أصحاب المنزل الذي تستأجره  طردها منه، تنهدت وقالت بأنها وجدت بيتها قائما “على رجليه” في حي عشيرة، لكنها تفاجأت بأنها لا تعرف أحدا من الجيران، وأن أحدهم، الذي يسكن أمامها بالذات، سكير عربيد، وهي لا تستطيع أن تعيش فيه مع ابنتها ذات التسعة عشر عاما، لاسيما أنّ زوجها توفي، وابنها الوحيد مفقود منذ ست سنوات.
ومع ذلك، فإن مئات العائلات آثرت أن تسكن الأحياء القديمة أو تستأجر بيوتا فيها بسبب الضيق من ارتفاع آجار البيوت، ولو اضطرت أن تغلق النوافذ المشرعة للهواء بشوادر الأمم المتحدة الرمادية المقيتة، التي غلا سعرها ثم فُقدت لاستهلاك الناس الشديد لها.
هذه القصص غيض من فيض يجري من دون أن ينتبه أحد، فالمصيبة أصبحت أكبر من بيت وأكبر من سقف وأكبر من حي مهدم، لا يمكن أن تفارق المرء هنا حتى ولو ادعى عدم وجودها، حتى ولو، مثلي، أصبح هاربا من الطرقات.
صعدتُ في السيارة بجانب العسكري الذي يرتدي ثيابا مهلهلة، كنت أسافر للمرة الأولى منذ سنوات إلى حماة، قال لي بان صعودي إلى جانبه سيخفف من وطأة أسئلة العساكر على الحواجز، جلستُ بحذر إلى جانبه مع شعور طاغ بالريبة منه لاسيما مع أسئلته التي لا تنتهي، سألني عن دراستي وجامعتي وعما أفعله في حياتي، حين اشتم خوفي الواضح منه، تلكأ في أسئلته، ليبدأ بالحديث طويلا عنه، قال لي بانه من ريف حمص، وبأنه يدرس الهندسة، وخطيبته التي من ” عندكم”، تدرس اللغة العربية، قال لي بأنهم أخذوه للاحتياط فجأة من الجامعة، ليجد نفسه ذات معركة بين أحضان داعش في الرقة هو وزملاؤه الآخرون، قال، وهو يضع إحدى يديه على قدمه المصابة،  بأنه رأى الموت مرتين، “ولولا ادعائي بأني ميت يومها، وجسدي المدمى مستسلم لاطمئنان البارودة في يد أحد مقاتلي داعش بأني ميت،  لما رأيتني الآن هنا”.
أخرج عدّة ورقات تؤكد إصابات بليغة في فخذه وصدره وقلبه، وكأنه يرجوني أن أصدقه، قال لي بأنه أجرى أكثر من أربع عمليات، و بأن حلمه أن يتابع الدراسة و يتزوج خطيبته التي سافرت منذ سنتين ، لكنه لا يملك المال ولا القدرة أن يسافر إليها أو يدرس في الخارج كما اتفق معها، قال لولا هذه الأوراق التي في يده، ولولا وساطات كثيرة لما سمح له بأن يعمل كسائق على سيارة أجرة. حيا الشاب المصاب العساكر الناعسين على الحاجز، مررنا أمام حي مدمر معظم بيوته من طابق واحد، بدا الحي أفقر من اللازم، وفارغا أكثر من اللازم، أو بالأحرى، كان فارغا تماما، وبدت شعارات ذابلة على بقايا الجدران التي أهمل الذين دمروها أن يمحوها بعد ملل التخريب، قال لي بأنه حي دير بعلبة، ثم أشار إلى أبنية  مهدمة بجواره هي جزء من شارع الستين، ابتلعت ريقي وأدرت وجهي فزعا لأني رأيتُ طيفك من أحد النوافذ المدمرة يومها.
التفتُ إلى السابق الذي خجل حين رأى وجهي المتهاوي أمام الدمار وتابع طريقه وهو صامت.
لم يكن أحد يعلم ما حدث سواك أنت وأنا ووالدتك.
كنتَ تمشي عائدا إلى بيتك، وكان يومها وقفة العيد، لم تنتبه إلى عيون مترصديك حين دخلت البيت مع أغراض العيد، لم يخطر ببالي ولا ببال والدتك أن ورقة “طلب العودة” ستنبه الخفافيش لوضع عينهم عليك لسحبك للاحتياط بدلا عن أخيك الهارب إلى الشمال، تنبه الناس متأخرين أن أحد أهداف هذه الورقة أخذ بيانات دقيقة لاصطياد المتبقين ممن لم يزج بهم في القتال بعد، قالوا لوالدتك ضاحكين “تركناه لك ليعيد معكم، لكن الآن يجب أن نأخذه معنا”، آخر مرة حدثتني بها كنت في درعا وكنت على وشك البكاء، قلت لي بأنهم سلموك البارودة وبأنك بالكاد تعرف كيف تمسكها وتتمنى لو أنك تهرب منهم، قلت لي بأنك لا تستطيع أن توجه بارودتك بوجه أحد، قلت بأنه لولا أمك المريضة لما كنت بقيت بالبلد لحظة واحدة، وبأنك أغلى أمانيك لو تعود إلينا الآن”.  وقد عدتَ بالفعل، لكن ليس كما أرتجي، حتى المدينة التي كنتَ تحبها تفقد معانيها حين يموت معنى الوطن فيها برحيل أبنائها.
قال لي والدك بأن وجهك بدا كما لو أنك تبتسم، ووالدتك سمتك بالشهيد، في عالمي الآخر أسميك بالعدو، أعرف أنك تفهم ما أعني وأنك لن تلومني، ولولا زياراتك المتقطعة لي لما استطعت البقاء، لن أكذب عليك وأقول بأني قد أمشي هناك، فالجدران ما زالت ثابتة في تداعيها، ولعلي قد أزورها يوما، لكن حين تشرع وحدها بالوقوف.

التعليقات: 2

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *