محتضناً جثة والده المتفحمة …
الكاتب : أحمد خليف
استغربت من محمد حين قال: “ما عندي شي أخسرو”
لم أفهم شيئاً، قلت: شو قصدك؟
قال: عشنا في كنف والدي ربانا لنكبر بين ذراعيه، عشنا في حيّ هادئ بسلام لم نؤذي أحداً.
نستيقظ صباحاً للعمل، ثم نعود مساءً لنأكل سوياً، نتسامر أثناء شرب الشاي ثم ننام بصورة يومية، هذه حياتنا.
في يوم من الأيام أتى إلينا شخص من الأحياء المجاورة المؤيدة للنظام و طلب منّا ترك الحيّ وهددنا بأنّهم سيحرقوننا داخل منازلنا إن لم نرحل، لم نُعر الأمر أيّ اهتمام، فهذه منازلنا ولا أحد يستطيع إخراجنا منها، هذا ما ظنناه، لكن تحسباً اتفقـنا ألّا يبقى أحدٌ منّا داخل منزله وحيداً، نخرج صباحاً لنعود مساءً وتم الأمر على هذه الشاكلة.
بعد عدة أيام، صباح يوم عادي، استيقظت مبكراً ثم توجهت إلى عملي، أمّا أبي فخرج لزيارة أحد أقاربنا في حيّ آخر، أمّي و إخوتي كنا قد أرسلناهم إلى مكانٍ آخر حتى يستتب الأمن قليلاً.
بينما أنا منشغل في عملي جاء إليّ قريبي الذي يسكن في حيّ مجاور، كان يدعى صلاح قائلاً:
إنّ بعض المؤييدين للنظام قد حاصــروا حيّكــم و أحرقــوا المنـازل بمؤازرة قوات النظام السوري.
تركت العمل أنا وركضت مع صلاح باتجاه الحيّ.
كان الحي محاصراً بالكامل ولا يسمح لأحد بالدخول، فقوات النظام السوري كانت تساعد المؤيدين لها وتمنعنا من دخوله، قال لي: سأحضر بعض المساعدة، أنت حاول الدخول إلى الحيّ مع بعض الشبّان.
كنت أعــرف طريقــاً عبر أسطح الأبنية فأنا ابن هذا الحيّ منذ نعومة أظافري، أحفظه حجراً حجراً، طلبتُ من بعضِ أبناء الحي مرافقتي للتأكد من أنّ الحيّ خالٍ أو لربما وجد أحدهم وكان بحاجة للمساعدة.
وصلنــا الحــي، كــان محترقاً بالكامل، لا يسمعُ إلا أصوات اللهب تلتهم المنازل، أمّا النيران فتتصاعد من كل مكان، بدأنا بدخول المنازل واحداً تلو الآخر، لنتأكد من خلوّها
(بدأت عينا محمد تفيض من الدمع)
تابع قائلاً : في البيت الأول دلوٌ من الشمع وعائلة في غرفة واحدة قد أُحرقت بالكامل، هذه العائلة أعرفها جيداً، أمّ أرملةٌ مع أولادها الستة أكبرهم في الثالثة عشر من عمره، صُب عليهم الشمع ثم وضعوا في غرفة وأحرقوا، رائحة الجثث المتفحمة مقرفة جداً.
بدأنا بتفتيش المنازل حتى بلغت الجثث العشرين جثة، دخلت إلى بيتنا الواقع في وسط الحيّ،
لم يكن أحدٌ من أسرتي هناك فقد خرجنا صباحاً أنا و أبي سوياً و أمي و إخوتي في مكان آخر، لكن سبب دخولي كان وجود باب في منزلنا يقود إلى بيت عمي المجاور فأعبر من خلاله إلى باقي البيوت، دخلت إلى منزلنا فرأيت دخان يتصاعد من المطبخ و الباب كان مقفلاً من الخارج، فتحت القفل محاولاً دفع الباب ثمة شيء خلف الباب يمنعني من فتحه، طلبت المساعدة في دفعه من صديقي، حين فُتِحَ الباب، فاحت رائحة الجثة المتفحمة مرة أخرى، إنّها جُثةٌ خلف الباب كانت قد احترقت بالكامل، عرفتُ حينها أنّ صاحبَ هذه الجثة حُبسَ في المطبخ ثم أحرق، تعجز عن تمييز ملامحه فهو متفحم بالكامل ولكن كيف وصل إلى هنا؟
الدخان كثيفٌ هنا، الرؤية معدومة، أنرت المصباح ثم شرعنا بإخماد الدخان و سكب الماء على الجثة حتى زال أثر الدخان عنها بالكامل، أمســكت الجثــة مــن يديها محاولاً سحبها للخارج، سحبتها بقوة فانفصلت الأيدي عن الجسم، موقف مقززٌ جداً جعلني أرميها فوراً لأجثو متقيأً من بشاعة المنظر، جلبت بطانية لنضع الجثة عليها ثم نسحبها، لم نكن نســتطيع حملهــا، دفعنــاها إلــى البطانية بواسطة رفش وسحبناها إلى الخارج، كما يصنع عامل النظافة، إلّا أنّه يستخدم مكنسة ومجرفة.
أمَا صديقي فقد يصــوّر الجثـث ويوثقهـا حيـن إخراجها بواسطة جهازه المحمول، يسجّل مقاطع الفيديو ثم يرسلها إلى القنوات الإخبارية لتبث جرائم قوات النظام السوري للعالم بأسره، فقد أصبحت فقرة «حصيلة شهداء هذا اليوم في سوريا» شيء طبيعياً و أساسياً عند المساء.
سحبنا الجثة إلى ضوء النهار، ثم تركناها في تلك البطانية.
تابعنا الدخول إلى منازل الحي، و اخماد الجثث ثم وضعها في بطانيات .
تابع قائلاً: في الساعة الثانية بعد الظهر بدأ إطلاق النار، كان الصوت قريباً من الحي ثم أصوات صراخ وهتافات، وبعدها انسحبت قوات النظام السوري، سمحوا للناس بالدخول لرؤية بيوتهم التي لم يملكوا أيّ شيء سواها، كانت تسترهم وتأويهم، فرحين بما قسمه الله لهم، ملأ الأسماع صوت مكبر قوات النظام السوري قائلاً:
سمحنا لكم بالدخول لتنظفوا الشوارع والمنازل من جثثكم النتنة، غداً سوف نأتي لاستلام منازلنا.
بدأ الناس بالدخول إلى منازلهم ليقابلوا عوائلهم المحترقة، كان الرجال يسترزقون الله خارج الحي، تاركين أُسرهم وصغارهم في المنازل حينها.
صوت الصراخ أصبح مألوفاً، قيل لي بأنّ قوات النظام السوري قد قتلوا بعض الشبان الذين حاولوا دخول الحيّ، قمنا بجمع الجثث في المسجد للصلاة عليها ثم دفنها، باشر الناس بإدخال الجثث،
فتحت بطانية الجثة التي كانت في منزلنا لعّلي أعرف صاحبها.
تلك الجثة بقدم واحدة!!
بشكل جنوني حملت المصباح وعدت إلى مطبخنا باحثاً عن القدم الأخرى، لم أجدها!
بل وجدت بقايا قدم اصطناعية
يا الله إنّه أبي يا الله
(أجهش بالبكاء وهو يتكلم، شاطرته البكاء أيضاً فقد سقطت دموعي لم أستطع تحمل الموقف، أخرجَ هاتفاً محمولاً من جيبه ليكمل القصة وتتضح الصورة أو ربما لأنّه لم يعد يستطيع متابعة الحديث)
مقطع فيديو يتوسطه سهم يشير الى بدء التشغيل، كان مقطع فيديو سُجّلَ له حين كان محتضناً جثة أبيه، يصرخ قائلاً:
يابي ليش رجعت ع البيت؟
يا أبي رد علي يا أبي؟
يابي مو حكيتلك لا تظل لحالك بالبيت؟
يا أبي وين رحت وتركتنا يا أبي؟
شو أخدك ع الدار مو قلتلك لا تروح؟
مجهشاً بالبكاء محتضناً أباه المتفحم بين يديه، يا الله ما أقسى هذا الموقف لا يمكن استيعابه.
انتهى التسجيل، ربتُّ على كتفه قائلاً: لا أعلم ماذا أقول، لكن حسبي الله وهو نعم الوكيل، أعطيته منديلاً فقال لي: دعني أكمل …
وضعنا الجثث في المسجد ليصبح العدد تسع وأربعون جثة، بعد قليل صاح أحدهم أنّها أصبحت خمسين جثة، أحضروا جثة جديدة.
كنت أسمع ما يقولونه لكني أسرح في شيء آخر، أفكر في أبي كيف نهضنا سويّاً صباحاً ثم احتسينا الشاي معاً، رافقني في الطريق، مازحته في الحافلة، ترجّلت منها قبله ليلوّح لي من النافذة بأصابعه، الآن لم يعد موجوداً، كان كل شيء بالنسبة لنا، هو كل ما نملك في هذه الحياة.
كان الناس يصرخون في المسجد: أتعرفون هذا الشاب؟ إنّه ليس من حيّنا، هل من أحد يعرفه؟
جثة ذلك الشاب ناحية أبي، نظرت إليها:
يا الله إنّه صلاح جاء ليخبرني ثم يموت!
قلت لهم ببرود وعيون متلبكة: إنّه صلاح قريبي.
ـ أتعرفه؟
ـ نعم إنّه صلاح قريبي وكيف لا أعرفه، لم هو أيضاً، ما ذنبه؟
حملنا الجثث متجهين سواء المقبرة، لا ندري كيف نحفر القبور، فلا نملك سوى رفش واحد، حاولت قوات النظــام ردعنــا مــن دفــن الجثث لكننا رفضنا وقاومنا وأصررْنا على الذهاب، وصلنا إلى المقبرة، بدأت القذائف تنهال علينا بغزارة، تركت جثــة أبــي أرضاً ثم استلقيت بجانبها، أنظر إليها قائلاً:
يابي يارب نموت سوا هون أنا مافيني عيش بلاك يابي.
استمر القصف لمدة تتجاوز النصف ساعة ثم توقف، أصيب بعض الأشخاص إصابات طفيفة، أحدثت القذائف حفراً في الأرض قمنا بتوسيعها قليلاً ثم وضعنا فيها شهداءنا وترحمنا عليهم، ربّ ضارة نافعة (قالها محمد بمرارة) .
مجزرة باب سباع 2012.03.12