أخبار

مروة خوري … تعليم الاطفال اللاجئين هدفي الاول

مزنة الزهوري

لم تعهدها شمس النهار إلاّ بضحكتها العريضة، ولكنّ اللحظات التي تلملم فيها هرم التعب، تستجمعهُ لنفسها، وتبكيه بمنعزل ليلها. تستمدّ ثقتها وقوتها من إيمانها بأهدافها، طموحها، و دعم والدتها بالدرجة الأولى.

عكس الكثير من الفتيات السوريات اللواتي طغى تفكير المجتمع عليهن و قيّدهن، فهي لا ترى حياتها مرتبطة بأيّ رجلٍ على الإطلاق. لا تؤمن بفكرة الراحة التي يعتقدها الآخرون في منزل الزوج، بعيداً عن شقاء العلم والعمل. تجد نفسها مستورة، وليست بحاجة لمن يستر عليها؛ فأهلها زرعوا الثقة بتربيتهم لها.

 لتكون هي، لاغيرها.

عندما وصلت مروة إلى لبنان، قطعت الأمل بأن تكمل تعليمها الجامعي، وتحقق طموحها في دراسة الماجستير،  وتغدو أستاذة جامعية يوماً ما.

مروة خوري هي صبية حمصيّة، من حيّ الخالدية، لم تتجاوز الـثلاث والعشرين عاماً من عمرها، لجأت إلى لبنان في نهاية 2015م، بعد قصّة رهيبة في النجاة من الموت، الحصار، كبقية السوريين.

درست الرياضيات في جامعة البعث، و أوقفت دراستها بعد أن أنهت السنة الثالثة.  الخوف لا يزال مسيطراً عليها، من  أن تصل مجدداً إلى عتبة التخرج  وتتوقف، إذا ما انقطع تمويل منحتها في الجامعة.

تبدأ يومها في الذهاب إلى الجامعة اللبنانية الدولية، حيث تدرس ذات الفرع بعد أن حصلت على منحة، ثمّ تتوجه بعد ذلك، إلى دوامها في مدرسة المقاصد بإحدى البلدات المجاورة، لتكمل يومها بتدريس الأطفال السوريين اللاجئين في الدوام المسائي.

انطلقت للبحث عن فرصة عمل في مجال التعليم مباشرة حال وصولها إلى لبنان. ففي الأسبوع الأول زارت المنظمات والمدارس في البلدة، سائلةً عن عمل..لم يكن لعائلتها أيّ معارف في هذا البلد ، ولكنّ بحثها الدؤوب نالت نتيجته.

الخبرة التي اكتسبتها في تعليم الأطفال أثناء الحصار، قوة إرادتها، تصميمها على أنّ الحياة لم تنته في حمص، الإصرارعلى تحدي الظروف التي لحقت بها.. كانوا العامل الرئيسي لتحظى بالفرصة الأولى في شِباك التعليم مع الأطفال اللاجئين.

بدأت كـمتطوعة  لتعليم الفتيات في مركز لجنة الإنقاذ الدولية، وسط المخيمات في البقاع الغربي، علّمتهن اللغة الإنكليزية. ثم انتقلت لتعليم الأطفال بمرحلة الحضانة، مع منظمة الانترسوس، واستمرّت بهذا العمل لمدّة سنة ونصف.

عملت خلال تلك الفترة،على زيادة خبرتها وصبرها، عبر الإلتحاق بالعديد من الدورات والتدريبات في الدعم النفسي ضد العنف والخوف، وكيفية التعامل مع الأطفال والمجتمع،  ثم استطاعت نقل تجربتها إلى الأطفال الذين تعلّمهم.

منتصف 2016م، انتقلت مروة لتدريس الأطفال مختلف المواد، من الصف الأول حتى الخامس الإبتدائي، في مدرسة المقاصد، ولازالت حتى الآن.

صادفت فيها الكثير من الحالات النفسية التي لاتعدّ ولاتحصى ( فقدان الأطفال لعوائلهم، أو إصابتهم بالقصف، خوف الأطفال من صوت باب الصف، أو الصوت العالي للمدرسين، البكاء الشديد، المشاغبة الزائدة، تعذيب المعلمين، الرسم على الدفاتر..)

تحاول جاهدةً أن تتعاطى بشكل مناسب مع كلّ طالب وطالبة، بحسب وضعهم النفسي، على حِدىً. فكلّ ردّات الفعل التي يقوم بها تلامذتها، تعبّر عن الحالات المتباينة للطلاب السوريين اللاجئين، تحكي ما ألمّ بهم من أهوال في سورية، وتؤكد النتائج المباشرة عليهم.

تتذكر غصتها الكبيرة، عندما زار أهلُ طالبٍ من طلابها المدرسة، ليستفسروا عن سلوكه. تفاجأت أنّ العائلة كلّها من ذوي الصمّ والبكم، وتلميذها هو الطفل الوحيد في عائلته يتكلم.

بدأ يترجم لها ما يريد أبواه قوله، وينقل لهم بلغة الإشارة ما تحكيه معلمته مروة. كان من أقسى المواقف التي صادفتها.

 ترى مروة أنّ حالة المعلّم تؤثر بشكل مباشر على تلاميذه. وتعمل دائماًعلى بقاء عزيمتها قويّة لأجلهم.

تخرج إلى الجامعة، والمدرسة، تشقّ طريقها بإبتسامتها. تعتبر انّ مربيّة الأجيال، ينبغي ان تبقى باعثة للأمل في نفوس مَن حولها. مرّات عديدة، تحتاج أن توقف عن كلّ شيء، تبتعد عن العالم الخارجي، تنعزل عن المجتمع، لترتاح، لتفرّغ هذا التعب في البكاء وحدها، دون أن يراها أحد، ثمّ ترجع للحياة.

ولكن على الرغم من الإحباط الشديد والوضع النفسي السيء الذي ينتابها، إلاّ أنّها تراقب جميع تصرفاتها في الباحة ، في الصفّ، في الدروس الخصوصية للاطفال في المنازل، فـهي المربيّة لـ جيل بأكمله، سيقلدها بطريقة التفكير، التصرفات، و الحركات..

 بهذه العبارات تؤكّد مروة على مسامعنا قصتها: “قوّة الإرادة التي يتمسك بها المعلّم، تشجّع تلاميذه كثيراً، وتحفّزهم للوصول إلى اهدافهم. لأنّ معظم الوقت يمضيه  التلميذ في المدرسة، يكبر متاثراً بـ أساتذته”.

 ترى مروة أنّ واجبها تجاه تلاميذها، أن تُخرجهم من الحالة النفسية، والضغط الذي عاشوه في سورية ويعيشونه في بلد اللجوء.

لم تعرف مروة مسبقاً، أنّ تلميذتها هبة، قد فقدت والدتها تحت القصف في دوما، إلى أن حلّ عيد الأمّ وجلبت لها الهدية، وأخبرتها عمّا حدث لـ أمّها. كانت هبة قبل ذلك، تقترب من مروة تلقائياً، تحتضنها، وتضمّها مراراً وتكراراً، تقول لها : ” أنتِ أمي، أريد أن أصبح مثلك معلمّة رياضيات، مع أنّني لا احبّ هذه المادة.”

ليست هبة الطالبة الوحيدة التي تجد بـمروة صديقة لها، بل أيضاً التلميذات في الصفوف الإعدادية يعتبرنها المرشدة النفسية والإجتماعية لهنّ، يخبرنها عمّا يعشنه في بيت أقاربهم  الأهل، عن رفض العمّ لقدومهنّ إلى المدرسة.. يبكين وتبلع مروة دموعها، لتشدّ على عزيمتهن.

  تكبتُ مروة عمق أوجاعها، تحاول النسيان، تستمد الصبر من بقاء والدها على قيد الحياة، بعد أن بُتِرت يده اليسرى. فهي لا تنسى ذاك اليوم، أبوها في طريقه ذاهباً للصلاة في المسجد، عندما انهمرت الصواريخ على ساحة الحج عاطف بحمص، مزامنة مع انتهاء دوام أطفال المدرسة عند الظهيرة. لقد نزلت القذيفة الأولى، أسرع والدها إلى الطفل المصاب كي ينقذه،  أتت الثانية لتبتر يده ويستشهد الطفل بحضنه.

مروة تأمل بالعودة إلى سورية، إلى حيّها وبيتها، ترافقها ضحكتها على الدروب في البقاع، إلى أن يأتي اليوم المنتظر!

تمدّ أصدقائها الذين تعرفت عليهم هنا، بإيجابية الحياة عبر ضحكتها، وتزوّد نفسها بهذه الطاقة المتبادلة، فقصصهم لا تبعد كثيرا عن معاناتها، يحملون من مدنهم ما يكفي من كؤوس الحرب ومرارته.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *