منازل دمشق المدمرة … بإنتظار اصحابها
غادرت نور 28 عاما مع عائلتها مدينة حرستا عام 2011 تاركة خلفها منزلها المليء بالذكريات، فلم تستطع العائلة إخراج أي شيء معها حين غادروا المنزل، قبل شهر ونصف من الآن تمكنت نور من الدخول إلى حرستا بعد سيطرة الجيش السوري ومغادرة مقاتلي المعارضة إلى ادلب في الشمال السوري، اتجهت نحو منزلها الذي دمرت الحرب أجزاء منه حين وصلت إلى هناك لم تجد أي غرض من أغراض المنزل لقد سرق كل شيء ماعدا بضع كتب من مكتبتها. تقول نور: “كنت أرى منزلي مكانا للحب والشغف لم يبق منه سوى بضع كتب، من الجيد أن الذين يقومون بالسرقة غير مهتمين بالكتب أو الثقافة لكنت خسرت آخر ما تبقى أيضا”.
تتعثر كلمات نور عن وصف شعورها حين وصلت الحي القديم حيث لاح لها منزلها من بعيد بعد أن غابت عنه قرابة ثمان سنوات، شعور بالفرح والألم اختلطا ببعضهما فرح لتمكنها من العودة بعد كل هذا الوقت، وحزن لدمار المكان الأقرب لقلبها، المكان الذي عاشت فيه قرابة عشرين عاما من حياتها، طفولتها مدرستها أصدقائها حبها الأول وأياما جميلة لن تمحى من ذاكرتها بالرغم من كل هذا الدمار.
تسارعت دقات قلبها وهي تخطو باتجاه المبنى الذي غير الدمار الذي أصاب مساحات واسعة منه ملامحه وملامح البيوت فيه، صعدت الدرج أو ما تبقى منه ودقات قلبها تتسارع أكثر مع كل درجة تخطوها حين وصلت أمام باب بيتها شعرت بأن قلبها سيتوقف! الباب مفتوح دخلت المنزل الفارغ من كل شيء أو بالأحرى المفرغ من كل شيء فقد تمت سرقة كل محتوياته لكن السارقين تركوا لها بضعا من كتبها المحببة ربما من حسن حظها أن السارقين ليسوا من المثقفين.
أم حاتم سيدة فلسطينية كانت تقطن في مخيم اليرموك قبل اندلاع الحرب السورية غادرت المخيم في ديسمبر العام 2012 بعد يوم من قصف طيران الميغ مسجد عبد القادر الحسيني مع نزوح المئات من العائلات خارج المخيم لتقطن مع عائلتها منذ ذلك الحين في منطقة المزة.
حين تم الاتفاق في الجنوب الدمشقي أول شيء تبادر إلى ذهنها الذهاب إلى منزلها. تقول أم حاتم: “حملت معي مفاتيح المنزل وذهبت أنا وابنتي وزوجها إلى هناك عند وصولنا صدمني مشهد الدمار رغم أنني كنت متابعة لأخبار المخيم وأعرف حجم الدمار الذي لحق به لكن للحقيقة وقع مختلف، لم نكن بحاجة للمفتاح لندخل المنزل فلا وجود للأبواب ولا للسقف كل بقي بضعة جدران والكثير من الركام أضحك كلما تذكرت أنني أخذت المفتاح معي”.
تقول ابنتها لين “لعنة المفاتيح تلاحقنا نحن الفلسطينيون، جدتي احتفظت بمفتاح بيتها في الخليل حتى مماتها ونحن الآن نحتفظ بفتاح منزلنا في المخيم، إنه الشيء الوحيد الذي تبقى لنا من ذاك المكان”.
تراقب العائلة الفلسطينية أخبار المخيم عن كثب، عمليات تنظيف الشوارع بدأت مؤخرا ويحكى عن بداية إصلاحات لخطوط الكهرباء والماء يأملون بعودة قريبة تنهي مأساة النزوح الثانية.
لمنزل حسين ومنال قصة كفاح تشابه في بعض فصولها قصص العديد من السوريين فالمنزل الواقع في منطقة التضامن على أطراف العاصمة دمشق كان ثمرة 15 عاما من العمل والجهد المتواصل، كل قطعة كانت موجودة فيه تحمل بضع قطرات من عرق كل منهما.
اضطرت العائلة إلى مغادرة المنزل بعد الاشتباكات التي دارت في المنطقة عام 2013 لكن حسين أبى في البداية ترك المنزل وبقي مع بعض الرجال من جيرانه الذين يقطنون في البناء نفسه، لكنه لم يستطع الصمود طويلا، فاضطر لاحقا للمغادرة أيضا.
تمركز في المنزل الذي كان على خطوط التماس بضع عناصر من الدفاع الوطني وبقوا هناك حتى وقت قريب. قبل عامين تقريبا تمكن حسين من الدخول إلى المنطقة مع إحدى ورشات الكهرباء وتمكن من الوصول إلى منزله الذي كان فارغا من كل شيء الأثاث مسروق بأكمله الأبواب الشبابيك الكهربائيات حتى تمديدات الكهرباء والماء اقتلعت من مكانها المطبخ محترق بأكمله بضع فتحات في الجدران ناجمة عن قذائف والبعض الآخر كانت بفعل القاطنين الجدد الذين ابتدعوا فكرة الممرات الداخلية عبر المنازل، لكن رغم كل هذا الدمار سقف المنزل لا زال موجودا وهذا ما أعطى حسين بعض الامل وأثناء صدمته من هول المشهد تذكر مكتبته، المكتبة التي كانت تحوي نخبة من أهم المؤلفات دواوين محمود درويش، أدونيس، الأدب الروسي والكثير الكثير.
تردد قبل سؤالهم عن مصيرها بعد امتعاضهم من كونه صاحب المنزل الذي استولوا عليه، لكنه حسم الموضوع وقرر سؤالهم ليجيبوه بأن الشتاء كان قاسيا فاضطروا لاستخدامها في التدفئة!
كان ذلك أكثر ما فطر قلبه رغم شعوره بالحزن العميق وهو يرى شقاء عمره يضيع أمام عينيه.
في الأسبوع الفائت وبعد توقف العمليات العسكرية ذهب حسين برفقة ابنتيه إلى المنزل بعد تمكنهم من الحصول على ورقة موافقة من قبل الحاجز المسؤول عن المنطقة، تسمح الورقة لهم بالدخول إلى المنطقة دون إخراج أي قطعة منها.
كانت الزيارة الأولى للفتاتين رشا وريم، حين وصولهم إلى المنطقة أحست رشا بالحنين للحي الذي غادرته منذ زمن طويل لكن عند وصولهم بدأت تنتابها مشاعر غريبة متناقضة “لم أفهم بما أشعر ربما انعدمت أحاسيسي كلها من وهل ما رأيت، كل ما شعرت به لاحقا هو الكره، الكره لمن تسبب بهذه الحرب الرعناء التي أفقدتنا كل ما نملك”.
لم تسطع منال حتى الآن الذهاب إلى المنزل لا يمكنها احتمال رؤية ما حل بدوحة أمانها، حاولت في مرة سابقة التغلب على كل ذلك لكن عند وصولها إلى أول المنطقة خانتها شجاعتها وعادت أدراجها.
تنتظر العائلة الصغيرة السماح لهم ولأهالي المنطقة بالعودة ليبدأوا بترميم المنزل الذي لم يبق منه حرفيا سوى السقف فبعد عملية النهب التي تعرض لها تم هدم الجدران واستبدال واجهاته التي كانت تطل على الحديقة القريبة بالمتاريس الترابية.
نور ابراهيم