وحشة الغربة … في بلاد لا ترحم
في حضرة الوطن الذي يذبح بمباركة الإنسانية، تفقد روحك التي هي معك، تسكب كل الوجع وأنت تبكي على شهيد أو معتقل، دون أن تدري أنّ الأحزان ستتوالى وأن هذا الوجع لم يعد يكفيك لتفي من رحلوا حقهم، وأنت تعيش هنا وحشة الغربة في بلاد لا ترحم.
وتصادفك وجوه لا ذكريات لك معها، تذهب بلقبك بعيداً إلى حيث يتقلبون في أوجاع الفقدان والحصار وهجرة الأجساد والأرواح. تذهب إلى ذاك الوطن، وأنت في مكانك، تعود بك الذاكرة إلى وجوه رحلَت أو أنت رحلتَ عنها، تقلب في صفحات ذاك العالم الأزرق لعلك تجد بعضاً مما تبحث عنه، فلا تجد إلا الوجع وبضع ضحكات مسروقة من حين إلى آخر، تجد انتقادات وإتهامات ودعوات في كل إتجاه، منها ما يطلب النيزك وبشدة، فلا نفع في يومٍ آخر. في كل هذا الشتات و في غربتي لم اعد أبحث إلا عمن تطالهم طائرات قبيحة في كل ثانية لتحطم كل ما فيهم , تسرق إبناً وإبنة، تسرق عائلة .. وتسرق منا حزناً جديداً. أمشي بحذر وقلبي يخفق خوفاً من التعثر بما لا يمكن تجنبه، أجد صديقي الصغير الجميل الذي اعتدنا ضحكته اللامعة من بين ركام الغوطة ينعي أحد أقربائه، يكتب عن شهداء يعيش معهم الحصار والوجع وربما كانوا آخر من التقى بهم قبل أن تفرغ تلك الطيارة حمولتها في أجسادهم.
لا أعرف كيف أواسيه! يا لضعف كلماتنا أمام أرواحهم المثقلة بالعجز والوجع! كيف أقول له إننا نحاف أن نفقدك .. نخاف ألا نجدك يوماً! نخاف أن نفقدكم ولا نجد في طرف صوركم الباسمة إلا شريطاً أسودا، وأعزي نفسي أنه بخير وأنه معنا وأدعو الله كثيراً أن يجعله وأهله وأهلي ووطني بخير. أصمت وأستقبل حزني بحفاوة، وأقتل دمعتي لأنني لا أستطيع أن أجيب إن سألني أحد: لماذا تبكين؟
أعود إلى ذاكرتي المثقوبة نوعاً ما، وأذكر أنني في حديث عن أخبار البلد منذ أيام تحدثت عن المعتقلين لأحد أبناء الشمال المحرر، ليجيبني أننا لم نعد نهتم بهذه القصة، فهمنا أن ينتهي يومنا وقد نجونا من الطائرة لننتظر قدر آخر في يوم آخر، أصمت وأخجل من حديثي الإنساني الغير مناسب، إنه محق فإننا نتحدث بينما هم يسيرون في درب وجعهم وحدهم! بينما نحن في درب موجع آخر ربما أقل وعورة. أحبس دمعة أخرى وأمنية بأن يحفظ الله أرواحهم ويثبتهم ليمروا بسلام. أما أهلي الذين جلست طويلاً لأقنع نفسي بأنني لن أشتاق لهم وأنهم بخير، فإنني أعترف بكذبي فمع كل صورة غصة وألف غصة، وألف دمعة أسيرة ضعفي، لا أجرؤ على سماع صوتهم، ألوم نفسي ألف مرة إن حادثتهم وبكيت وأبكيتهم، لذلك لا أسمعهم فأنا لم أعد أبكي! أتركهم لحياة لست فيها، بعيدة عنهم، لفرح وحزن لن أكون فيه، بيننا مسافة من حزن ملتهب أتركهم وأغوص في الغياب. إن قرأوا يوماً سيعذرونني ربما على تقصيري وعدم شوقي “الكاذب” فأنا أبكيهم في اليوم ألف مرة، وأبكي عجزي وضعفي لكن بلا دموع.
ها قد انتهى اليوم وما انتهى الوجع، وما غابت الحكايات، ولا أعرف أي حزن هرب من الدنيا وأقام في وطني! لكنني أعرف أنني عندما أبكي مرة أخرى سأبكي لأني لم أعد أبكي. لأني لم أعد قادرة على ذلك.
جمانة حسن … صحفية سورية