العاديون … كيف أكلت الثورة أبناءها؟
ليلى الرفاعي
سماني أبي ليلى لأنه ليلى من أسماء الكعبة بالمخيال الصوفي، وهو أكثر اسم بيذكروه بأناشيدهم، ومن لما وعيت على هالدنيا بسمعه بغنيلي “سلبت ليلى مني العقل” و “ما ظني مجنون ليلى قد جُن بعض الجنون”، وصار لي سنتين ونص ما شفته، ولو طلعلي مارد بشي مصباح وسألني شو بدي من هالدنيا كلها ح قله بدي أقعد مع أبي وأمي جلسة وبعدها على الدنيا السلام.
أنا من عائلة بسيطة بريف دمشق، خريجة لغة عربية وعلوم شرعية، أكبر وحدة بين إخواتي يلي كانوا ستة وبقيوا بقلبي وعقلي ستة رغم استشهاد أخي جهاد، بعرف أنو في تجارب بالحياة منختارها وتجارب بتنفرض علينا، وشو ما كان نوع التجربة فهي بالنهاية ذخيرة إضافية بطريق الحياة الطويل، وأني كون الأخت الكبيرة فهي تجربة انفرضت عليي ويمكن لو خُيّرت ما اخترتها، بس رغم هيك فأمي وأبي وإخواتي هنن النور والمعنى والحياة ابتداء وانتهاء.
كل مرة بجي لأكتب عني بخجل كتير .. بخجل من الله يلي غمرني برعايته وبتوفيقه وحفظه، وبخجل من الناس ومصائبها؛ وأحيانا بخجل من حالي وشعوري بالتقصير معها؛ فمتلي متل كل السوريين العاديين فقدنا أحلامنا واستشهدوا أحبابنا وبعّدنا عن أهلنا وذقنا ذل اللجوء، واحترقنا كُرمى للثورة والأرض، لكن مع هيك بقول أنو لازم كلنا نحكي ونغرّق العالم بمآسينا وقصصنا.
بالجامعة كان دكتور بقسمنا يقول: “ليلى الرفاعي ذؤابة القوم” بظن أني كنت مخلصة لدراستي ولحبي للغة العربية كنت شغوفة وغرقانة، كنت حس حالي عم حاكي الناس بعصر بني أمية، عم صافح سكينة وغيظ عائشة وأسمع عمر بن أبي ربيعة وأتّبع مجنون ليلى وراقب جميل بثينة، كانت حياتي مصحفي وأهلي والشعر، بهي الفترة تحديدًا كنت عم عايش تناقضات الحياة بين عالمين مختلفين عالم الجامعة الخاصة يلي كنت أدرس فيها شريعة، وعالم جامعة دمشق يلي كنت أدرس فيها لغة عربية، كان التناقض الظاهر والخفي مخيف، وكنت أبحث على سبيل التوازن والتماسك والتكامل من دون إفراط أو تفريط،أمام المبادئ الموهومة والمسلّمات الهشّة.
وبأثناء معمعة هالتناقضات بدأت الثورات بتونس ومصر وليبيا ، وكنا نترقب انها توصل الثورة لسورية مع شعورنا بأنه معقول تصير عندنا ثورة؟!!
وفعلا وصلت الثورة ؛ وممكن قول هون كانت الولادة الثانية؛ الولادة الحقيقية يلي خلت كل شي قبلها سراب وهباء
خلتنا ثورتنا أمام أفق جديدة وفتحت لنا باب الأحلام وخلتنا فعلًا نتنفس حرية، كنت أمام خيارين يا بكمل حياتي الجامعية بكل ما فيها من دراسة وثقافة محددة وكأنو شي بهالبلد ما عم يصير، أو بفوت بهالثورة بإخلاص بنفس الإخلاص يلي منحته للشعر الأموي، كانت الأيام والناس والجغرافيا والطرقات عم تتغير بسرعة .. فجأة اتحاصروا أهلي حصار جزئي وصرت شوفهم ٣ أيام بالأسبوع و٤ أيام داوم فيهم بالماجستير، بالأيام ال٣ كنت شوف أهلي عم ياكلوا – وآكل معهم طبعًا – خبز شعير من دون كهربا ولا مي، وشوف كيف الحال عم تضيق وتضيق بشكل مخيف بالبيت، وبال٤ أيام كان كل شي بالجامعة عم يمشي متل ما هو … الكهربا .. النت .. المي .. الأكل، هذا التناقض كان عم يستنزفني وكل ما فكر أني وصلت لذروة المعاناة يطلع لي شي جديد، أخي جهاد استشهد لمست الموت وما لمست جهاد قبل ما يندفن، وبعد استشهاده اعتزلت الناس ١٠ أيام وأنا ما عم استوعب وبعد ال١٠ أيام رجعت لداوم بالماجستير كان كل شي برا المنطقة يلي فيها أهلي مثل ما هو .. الناس .. المحاضرات… العجقة، كنت مفجوعة وموجوعة وصرت متمسكة بخيار الثورة أكتر الثورة يلي شربت من دم جهاد الطاهر وشربت دمع امي وصفنة ابي وحرقة ارواحنا انا واخواتي؛ الثورة يللي طعميناها شباب مثل الوردة ظفر كل واحد منهم بيسوى كل عيلة الأسد؛ الثورة يللي خلتنا نحس قديش نحنا بحاجتها حتى نشعر اننا على فيد الحياة والكرامة؛ صارت عندي أقدس شي بالحياة.
اتحاصروا أهلي ٩ شهور بتمامهم ما شفتهم، أكلوا فيها ورق شجر وشربوا مي وملح وطلعوا من الحصار مرضانين وفاقدين أوزانهم، كانوا ال٩ شهور درس كبير ومدرسة أكبر، وضاقت فيني الأيام والخيارات والحياة ومن باب أخذ راحة من العناء والشقاء اتفقت مع أهلي بال٢٠١٥ أني أطلع على تركيا زيارة لعند أخي يلي سافر من سنة، وفعلا قطعت ذهاب وأياب وأجيت على اسطنبول، وعلقت هون مجبرة لا مختارة، مكسورة ومسجونة وما في سبيل … طلعت الغربة مدرسة أكبر من مدرسة الحصار والموت
حاولت أني أبقى “ذؤابة” ثوريًّا وأخلاقيًّا وعملًا وإخلاصًا بمستنقع اسطنبول الكبير وبكرم الله وفضله كانت الأبواب عم تنفتح وبدأت وظّف وأصقل لغتي الحبيبة وقراءاتي و من حرقة قلبي على مكتبتي كنت أقبض الراتب وفكر شو بدي جيب كتاب مع أنو راتبي كان ببعض الأمكان بالكاد معيشني أنا وأخي باسطنبول المفترض أنها “حلوة”، صارت مكتبتي باسطنبول قريبة لمكتبتي بسوريا وبدأت اشتغل بالإعلام والكتابة وحوّل معاناتي ومعاناة الناس الثوريين العاديين والبسيطين مثلي لشي مكتوب ينغّص على ساكيني البروج العاجية، وبقلب هالمعارك اتفركش فيني “عبيدة” شب لطيف وأخلاقي بتحسو فعلا ولدان بالزمان الخطأ من كتر ما هو مؤدب وشفاف، مو بس اتفركش فيني وفركشني فيه بعد ما كفرت بصدق العلاقات الإنسانية، و كمان عبيدة هون بلا أهله وأكبر واحد بأخواته وأكلته الغربة وأحيته الثورة، وهيك بلا طول سيرة خطبنا وقررنا نكمل طريق الثورة والتشرد والهم والفقد وقلة الحيلة سوا، ما بهمنا قعدنا على رصيف ولا على كنباية طالما أنو ثورتنا وأهلنا بخير.