جهاد كدم … رسمت دمشق بألوان الحرب واللجوء
مالك أبو خير
في البداية اعرفكم بنفسي اسمي جهاد كدم، انتقلت مع عائلتي في الخامسة من عمري إلى دمشق، وحينها بدأت اهتماماتي بالألوان والرسوم والأشغال اليدوية والتزيين، وكنت أقضي معظم وقتي في الرسم واعداد الأعمال الفنّية اللوحات بتقنيّات وأساليب متعددة بالإضافة الى الأعمال المجسّمة المصنوعة من الخشب والأسلاك والمعادن، حتى انهيت الثانوية، في دمشق العاصمة.
سافرت إلى الإمارات العربية المتحدة وحصلت عام 2010 على شهادة في (التسويق) على نقيض ما أطمح، فمدن الصحراء الكبرى لها قوانينها أيضا، وعملت لمدة سنتين في التصميم والرسم.
عدت إلى دمشق عام 2012 عندما كانت الحرب قد اندلعت في العديد من المناطق السورية، وبقيت في سوريا ثلاث سنوات، اضطررت للانتقال مع عائلتي خلالها عدّة مرات، نتيجة القصف والدمار الذي لحق بالمناطق التي كنّا نسكنها (كفرسوسة، الغوطة الغربية، المهايني قرب داريّا)، كانت فترة قاسية وصعبة للغاية، عشت خلالها مرارة النزوح وانعدام الأمن، وفقدت أخي الأصغر والعديد من اصدقائي خلال تلك الفترة. كل تلك الظروف المنافية للاستقرار والأمان والسكينة التي يشترطها إنجاز أي عمل فنّي أو تخطيط أو تحضير له، وتلك الصعوبات والمعوقات، كان من شأنها انقطاعي عن الرسم طوال تلك المدة تقريباً ولم أستطع انجاز شيء من الجانب الفني، باستثناء بعض النشاطات التعليمية للأطفال ضمن الفعاليات الأهلية والاجتماعية التي كانت في كل منطقة انزح إليها، تعرفت خلال هذه الفترة، بنشطاء وصحفيين معروفين، كالصحفي غياث عباس وآخرين، وعملنا معا في النشاط الاجتماعي، إلى جانب المتضررين من تعسف النظام السوري.
ولكن ومن جهة الأخرى كانت تلك الفترة قد راكمت في داخلي الكثير من المشاعر المتضاربة التي قد احتاج لسنين طويلة للإفراج عنها في أعمالي المستقبلية، مزيج غريب من القلق والحزن والفقد والأمل، ومشاهد مريرة، حتى بمرورها بالذاكرة تكاد تمزق كل ما حولها من أشياء جميلة قد تكون مرت من هناك ولو بالصدفة. منزل الطفولة، تكدس ركاما، مدن فارغه خاوية على عروشها، إنسان يحتضر، جنائز الشهداء، خوف وبكاء والكثير. كنت كلما وقفت أمام لوحة بيضاء، أعتقد أني سأفرغ كل ما فيّ، وسأرسم ما يحكي عن كل سمعت ورأيت، لكني سرعان ما أجد أن ما حدث في سوريا لا يستطيع أحد الإلمام به، وتلخيصه، ولو اشتغل عليه لقرن!
هل يهدم منزلنا كل يوم؟ كم مرّة سيموت أخي مجد؟ كم مرة سنودّع الأحبّة والأصدقاء، كم مكاناً غالياً سنودّع؟ كم قرية ستهدم؟ هل يستطيع عمل فني الإفصاح عن كل هذا؟
في ذلك الوقت، كان اسمي قد أدرج ضمن قوائم المطلوبين للخدمة العسكرية، وقد تم تبليغي بذلك، لكن الموضوع لم يعد حينها يتوقف عند كونه قانون يجب عليّ الامتثال له، بل إن وجودي في الخدمة العسكرية في تلك الفترة كان محط جدل أخلاقي وإنساني، وقد لا يخفى على أحد أن وحشية الحرب السورية لا تترك لحاملي السلاح خيارات خارج خيارين اثنين (قاتل أو مقتول) وكلاهما خسارة! فبعد كل هذا الكم من الدمار لن يكون أي نصر إلا (بيروسيا) مريرا.
في عام 2015 بادرت السلطات المعنية بالخدمة العسكرية، بتسوية تشمل المتخلفين عن الخدمة، شريطة دفع غرامات عن مدة التخلّف وامهال المتقدمين للتسوية مدة للالتحاق بالجيش بعدها. قمت بإجراء التسوية ودفع الغرامات، وسافرت الى بيروت فوراً.
دخلت الى لبنان بدعوة مجلّة كنت أرفدها برسوم كاريكاتورية، ومنحت إقامة مؤقتة، وبعد انتهائها وجدت نفسي عالقاً في بيروت، لا أستطيع العودة الى سوريا وهذا ما يقتضينه تجديد الإقامة، ولا أستطيع السفر إلى مكان آخر نتيجة وجودي الغير قانوني بعد انتهاء مدة الإقامة.
لكن ذلك لم يمنعني من الاستمرار في الرسم بل على العكس فأقضي كامل وقتي في المحترف الخاص بي، أرسم وأعلّم الرسم، وأعدّ أدواتي ولوحاتي وألواني بنفسي. رسمت بيروت وسهل البقاع والعديد من القرى والمدن اللبنانية، رسمت دمشق وحلب ودرعا والكثير الكثير من سوريا وما اتمناه لها، شاركت في العديد من المعارض والفعاليات الثقافية والمهرجانات , وحصلت على العديد من شهادات التقدير والأوسمة والتكريمات , وعملت في تعليم الرسم في معهد خاص وشاركت في فعاليات ونشاطات مدنية معنيّة بالشأن السوري , وقدمت مع مجموعه من الفنانين السوريين مؤخراً وبدعم من شبكة جيرون الإعلامية , أعمالاً مشتركة ذات طابع وطني سوري.
في لبنان كنت قد وصلت إلى مكان ليس آمنا كما كنت أعتقد، فكل الأطراف تتاجر بالقضية السورية، وكل الأطراف تسعى لمكاسب سياسية من خلال تقديم خطاب شعبوي مناهض للسوريين، فحاولت أن الخص كل الهويات التي فرضت بهوية اللون، والريشة التي تصنع الهوية وتخلقها، وتغرق فيها، أنه خلل في الهوية حين يصير الخالق مخلوقه، الرسام لوحته، وحين تضيف العلامة الموسيقية شيئا جديدا في شخصية ملحنها، فيصير هي هو، وهو هي. وتخلط الذات بالموضوع، ويتجوهر المظهر، وتخفي الأبعاد بين الأشياء في لوحة، ولكن هناك دائما من يريد عزلك عن هويتك التي تريد، ويفرض عليك أخرى بل ويحاسبك عليها، ويكيل عليك كراهية لا لذاتك وما أنت بل ما صنعه ضيق أفقه حولك، فلا ملاذ إذا إلا الإصرار نشاطي في الرسم بشكل أوسع ولساعات أطول، ارسم الاشياء في انفعالاتها القصوى، آخذ اللوحة إلى حيث تبدو انفجار، ألوان وضوء، حيوية وحرارة، في الحقيقة انا ارسم عكس ما رأيت، فوحدي من يعرف كيف يقول (قرية منكوبة) فقد عشتها وأعرف كيف أقولها باللون. أرسمها وهي بكامل أوجها وفيضها، أنكر الصورة البشعة واسخر منها، وأحيك من مخيّلتي صورة لها. ولذا أحاول جاهدا، الخروج من لبنان لفضاء لا يكترث أحد لأمرك، ويهتم أحد بمن أنت ولما أنت، قدمت طلب للسفارة الفرنسية في بيروت، التي بدت لي فرنسا، أملا في السفر في الزمن لا في الجغرافيا. وفهذه البلاد لا تكاد تتسع للوحة، ولا تأمن الألوان من تكدس جدران مرسمي عليها يوما، فتخنق ما فيها من نزوع إلى الانعتاق.