حكاية أول معيدة في جامعة دمشق استقالت دعماً لثورة شعب
مع بداية الثورة الشعبية في آذار من العام 2011، أعلنت المعيدة السورية شهد صالحة استقالتها من جامعة دمشق، رفضاً للانتهاكات التي تجري بحق الشعب في الشارع، فكانت أولى النساء المنشقات عن صفوف النظام القمعي.
لم تكن صالحة تملك وعياً لما يجري من انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا، حتى بدأت تقرأ التقارير المكتوبة باللغة الانجليزية، وأدركت أن التمرد هو جزء من حكاية الإنسان السوري؛ الذي قرر بعضه أن يخضع مستكيناً، وتم تدجينه ليأكل وينام.
في سن صغير جداً، كان والداها يلقبونها بالمتمردة، ليس لأنها كانت تصرخ وتبكي وتزمجر؛ بل لأنها كانت تسأل: «لماذا علي أن أفعل هذا؟. وكانت بنفس الوقت تدافع عن أشقائها عندما يتعرضون للأذى الجسدي». تقول شهد: «أشعر أن مصطلح متمردة لغة قهرية، الهدف منها فتح باب التنمر من أجل الإخضاع، تماما كمصلح الإرهاب الذي تستعمله الدول الكبرى الآن ضد الشعوب الضعيفة. وهو نفس المصطلح الذي يستعمل ضدي حتى من قبل إخوتي عندما تتعارض مصالحهم مع رأيي».
اكتسبت شهد اسم متمردة بجدارة في عمر السادسة؛ حين خرجت عن منهج (اخرسي واجلسي) بكثرة الاسئلة حول الكون، والله، والإنسان، والدين، وكانت عقدة الوسط بين خمس بنات، والأكثر تعرضاً للإيذاء الجسدي لأنها كطفلة أنثى تشكل تهديداً حقيقاً لأسرة؛ حتى لو كانت متعلمة، برفضها أن تخضع -تسكت- دون أن تفهم، كما تضيف: «تساؤلاتي كانت تدور دائماً حول قوانينهم، وقبولهم الخنوع والاتباع الأعمى لتقاليد وأنظمة ثبت للناس ذات الأخلاق؛ وبالدليل القاطع – بعد سنين من تساؤلاتي- أنها أنظمة لا إنسانية، ومن ضمنها النظام المشيخي الذي كان يصر على إخضاع الناس لخدمة الحاكم».
في ظل ذلك المجتمع المحكم الإطباق على الطفلة الأنثى؛ وجدت شهد في الكتب مساحة الجنة الواسعة التي ساعدتها فيما بعد على بناء نهج بعيد عن كل ما يؤمن به مجتمع تقول أمثاله الشعبية «هم البنات للممات»، فكانت قارئة نهمة للكتب، ففي سن العاشرة قرأت كل قصص المكتبة الخضراء، وفي سن الحادية عشر قرأت لجبران وميخائيل نعيمة، وتوفيق الحكيم، ونزار قباني، وفدوى طوقان، ومحمود درويش، وعشقت الشعر والموسيقا. كما قرأت شذور الذهب، والمعلقات، وطبائع الاستبداد، وغامرت بقراءة الجريمة والعقاب، والأدب الفرنسي المترجم.
وعن بداية رحلتها مع الكتابة؛ تقول: «في عمر صغير ما دون الثانية عشر، تفجر قلمي، وكنت أكتب خواطر أنثى. اشتمت أمي من ورائها أرواح نزار ومحمود درويش، فكسرت أقلامي، علماً أنها تقرض الشعر. ذلك التناقض الرهيب بين شعرية أمي وكسرها أقلامي؛ جعلني أكثر تمرداً، فكتبت قصتي القصيرة الأولى التي حملت اسم: دمشق يا دمع الياسمين، والتي فازت بجائزة أفضل قصة قصيرة في دمشق عام 1989. كان والدي في حينها مازال يعمل في القضاء، ولكثرة الأحداث التي تمر عليه؛ بالإضافة إلى موروثه الشرقي، وكذلك جدتي لأبي، وأعمامي الذين كانوا يقطنون معنا في المبنى ذاته، وكانوا شديدي الحذر من الإناث، جعل حياة البنات في العائلة سجناً متعدد الأبواب».
كان التحدي الأكبر الذي وقعت به شهد يتمثل في دخول الجامعة، وقد خاضت والدتها معارك كبرى من أجل إقناع رب الأسرة الدخول إلى الجامعة، ولكن الذي سهل الأمر هو حصلها على مجموع عال في الثانوية، ما دفع والدها للتنازل عن حكم قراقوش. وفي الجامعة تفوقت في كل السنين، وحصدت جائزة الخريج الأول في كل سنة، وكانت قليلة الأصدقاء إلا من المكتبة التي كانت ترتادها في كل الفرص، معيدة السبب «ليس لأنني لم أرغب بالأصدقاء، ولكن من خوفي أن أفتح باباً للفتنة، أجد نفسي أدفع الثمن خروجي من الجامعة، والسبب الآخر أن والدي كان شديد الوعيد».
تخرجت من جامعة دمشق بالدرجة الأولى، وذلك فتح لها أبواب التوظيف على مصراعيها، وعادت معيدة إلى نفس الجامعة في عام 2003 لتسافر بعد معارك طاحنة إلى بريطانيا لتكمل دراسة الماجستير في علم الأنظمة، والتي تخرجت منها الأولى أيضاً، ومن ثم الدكتوراه في علم إدارة المعرفة، وحصلت من خلالها على مرتبة الشرف من جامعة شيفيلد البريطانية.
وعن رحلتها الدراسية والحياتية في الغربة؛ قالت: «في عام 2005 وصلت إلى بريطانيا، وكان لدي طفلتان، وكان علي أن أعمل لأزيد دخلي، وأستطيع تغطية نفقات المعيشة. كان أول عمل قمت به كمترجمة للأطفال في المدارس. حيث عملت حينها تطوعاً حتى أكتسب الخبرة، لأن لغتي في ذلك الوقت لم تكن ناضجة كفاية لأقوم بالترجمة للكبار، وبنفس الوقت كنت أعمل حول بنتي اللتان بدأتا تكبران كزهر الياسمين الذي عشقته».
وتؤكد أنه في العام 2006 تخرجت من جامعة هدرسفيلد قسم هندسة المعلومات، وتم تعيينها في الجامعة كمدرس مساعد، وكانت حينها تعمل في الترجمة. وفي عام 2007 بدأت دراسة الدكتوراه بالتزامن مع برنامج دبلوما عن بعد لدراسة علم التواصل. هذه الدراسة التي فتحت أمامها أفق التساؤلات من جديد عن: من هو الانسان؟ ما هي اللغة، ما هو الجسد، ما هي المجتمعات، من نحن و من هم؟، وبدأت تتفاعل مع حقوق الإنسان وهيئاته، فعملت كمتطوعة مع «أمنستي أنترتشنال»، وهيئات محلية في بريطانيا تهتم بحقوق الإنسان. «كنت أحاول جاهدة أن أوصل صوت الثورة للأعلام الغربي الذي لم يبحث يوماً عن الحقيقة، فاعتزلت الإعلام الغربي، وبدأت مشواري الإعلامي الخاص الذي أعددت فيه برامج تدريبية، ومحاضرات، وندوات إعلامية، بالإضافة إلى صفحة الفيس بوك خاصتي، والتي كان الهدف منها التوعية للإنسان، وأهمية الإعلام، والكلمة، ومعاني الوطن، والمواطنة، وقضايا التعليم، وبناء المجتمعات. وركزت أيضاً على قضايا الاخلاق».
بالإضافة إلى عملها الأكاديمي، افتتحت الدكتورة شهد مركز IELTC للتدريب والاستشارة الخاص بها في المدينة التي تقطنها في بريطانيا، ولها برنامجها الإذاعي على قناة لينك أف أم المنقول على الفيس بوك –the choice- الذي تعالج من خلاله قضايا الاغتراب، والإنسان. وتختم بالقول: «مازالت رحلة المتمردة مستمرة من أجل الانسان، وأدرك الآن بعد أربعين مرت أن شهد الانثى ستبقى دائماً متمردة».