أخبار

كبار السن والمتقاعدين في سورية … حكاية منسيين بين تفاصيل الحرب السورية

كبارنا هم عزّنا و عزوتنا و نقطة ضعفنا ، هم مَن بنوا الوطن بسواعدهم وحملوا همه على أكتافهم ، فخدموه بشرفٍ و إخلاص و لم يتوانوا عن عطائهم رغم الأجور الزهيدة ، و الحياة المريرة ، و هُم من حفرت آثار التعب معالم وجوههم ليأمنوا لنا حياة كريمة ، نحن اليوم عاجزون أن نؤمن لهم و لأنفسنا أبسط مقومات الحياة ، و عاجزون حتى أن نحفظ كرامتهم أو نهوّن عليهم خذلانهم .

 

فكثيراً ما نرى في سوريا الأطفال و المسنّون يتخطون حدود العمر و يمضون سعياً إلى الرزق ، حيث لم يُعفَ صغار السن من الكدّ و الشقاء بغية إعالة أهاليهم ، و لم يحصل الكبار على حقهم في الراحة آخر عمرهم ، فالرواتب التعويضية التقاعدية لكبار السن لا تكفل لهم سد حاجياتهم ، إن وجدت ، و الموظف أو العامل الذي قضى عمره في العمل لدى قطاعات الدولة السورية للحصول على معاشٍ تقاعدي الذي من المفترض أن يوفر له و لعائلته الضمان المالي و الصحي و يحمي شيخوخته ، يجد أن هذا المعاش أصبح لا يكفي لسد الرمق ، هذا إن حصل عليه ، و أنه بحاجة لمزاولة مهنة جديدة بغض النظر عن عمره أو وضعه الصحي أو العلميّ ، وكأنه شابٌ يشقُ حياته من جديد…

 

شاهد بالفيديو : النزوح الثقيل على كبار السن في مخيم الشيخ بحر بريف إدلب الشمالي

https://www.youtube.com/watch?v=xwpPV2pTtL0

 

تجلسُ أمّ حاتم غالباً في نفس المكان على عتبةٍ صغيرة فوق الرصيف في إحدى حارات دمشق ، تضع أمامها أكياساً تحوي خضروات مقطعة جاهزة للطبخ ، تحضرها في المنزل و تبيعها في الشارع للمارة ، ” الرّبح قليل و لكن الحمدلله أهونَ من قصدِ الغريب ” تقول هذا الكلام بابتسامة رضا لتغطي حسرتها ،و تحكي لنا أكثر عن عملها قائلة :

” أنا أمٌ أرملة ل٣ أولاد ، أملك ٦٤ عاماً ، لدي شابٌ في الثانوية يعمل بعد دوامه في ورشةٍ لإصلاح السيارات ، و طفلتين غيره في المدرسة ، أما عن عملي فأشتري الخضروات من المزارعين ، و أزرع بعضها في أحواضٍ على شرفة منزلي ، من ثم أُقطعها و أجهزها للطبخ ، (فهناك نساءٌ لا يمتلكن وقتا ً كافي بعد دوامهن لتحضير بعض الأكلات الشعبية الصعبة ) ،و أغتنم الفرصة أثناء تواجد الأولاد في المدرسة لأمضي و أبيع ما لدي في السوق”

و أكملت : ” كنت أعمل في القطاع الخاص كمستخدمة في أحد المعاهد ، ولم أحصل على تعويض تقاعدي ، لأن صاحب العمل لم يسجلني في التأمينات الإجتماعية ، فوجدت نفسي بعدها مضطرةً على هذا العمل ، لأحمل الهم عن ابني و لأحفظ ماء وجهي ”

شاهد بالفيديو:  “كوفيد 19″ يترصد كبار السن

يمتعض عادةً أصحاب العمل في القطاع الخاص عن تسجيل عمالهم في التأمينات الإجتماعية، للتهرب من الرسوم الشهرية الواجب عليهم دفعها و البالغة نحو ١٧٪ من راتب الموظف دون الاقتطاع من الراتب ، أو يتلاعبون بقيمة الراتب المسجل في التأمينات ، فيسجلون الموظف بأدنى راتب في سلم الرواتب الوظيفية المسموح بها ليخفضوا من الرسوم الشهرية المفروض عليهم دفعها.

 

و لا تختلف معاناة المتقاعدين في القطاعات العامة عن معاناة المتقاعدين في القطاعات الخاصة كثيرا ً

فالميزات التي يحصل عليها الموظف الحكومي المتقاعد هي التعويضات البسيطة و الراتب التقاعدي الباخس الذي يحسب على أساس : عدد سنوات الخدمة × متوسط أجر السنة الأخيرة ÷ ٤٠

و قد أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد في شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي منحة للمتقاعدين تبلغ (٤٠) الف ليرة سورية.

شاهد بالفيديو: سوريا..عندما تضيق دور المسنين !

(المنحة لم تكفيني لشراء لباسٍ شتوي لابنتي الصغيرة )

هذا ما قاله العم أبو يوسف ذو السبعين عاماً ، و هو موظفٌ حكوميٌّ متقاعد ، يعمل الآن كحارس ليلي لأحد المنشآت ، يذهب كل يوم إلى عمله ليلاً مصطحباً معه طعامه و شرابه و ما يؤنسه في ليله و يشغله عن التفكير في همومه فبحسب قوله (الليل طويل و همومي كثيرة ) و كما روى لنا:

” أنا أب ل٣ فتيات ، و راتبي و راتب زوجتي التقاعدي ومع الكثير من الاختصار و التخلي عن كل المواد الكمالية و حتى بعض المواد الأساسية ، بالكاد يكفي ، و في بعض الأحيان نقع في عجزٍ مالي و نضطر للاستدانة ، هذا ما دفعني للبحث عن عمل يؤمن لي دخل إضافي يتناسب مع تزايد الأسعار أضعافاً مضاعفة ، بعيداً عن طلب يد العون من أحد ، فعملت في البداية في التمديدات الصحية و من ثم حارس ليلي على الرغم أنني مريض ضغط و سكري و احتاج كل شهر لسلة دوائية ، و بالإضافة للغلاء الفاحش و كل ما نعانيه من أزمات تمس صلب حياتنا كالوقود و الخبز و الكهرباء و غيرها ، هناك أزمة الدواء و عدم توفره في المستشفيات و المستوصفات و تواجده بأسعار غالية في الصيدليات ، فكيف لمعاشي التقاعدي الذي لا يتجاوز ال ٥٠ ألف و معاش زوجتي الذي لا يتجاوز ال ٤٨ ألف أن يغطيا كل هذا ؟ ”

و أبدا أبو يوسف استيائه من عجز السلطة عن إيجاد الحلول قائلاً:

” أستغرب من المعنيين و أصحاب السلطة كل هذه اللامبالاة و التقاعس في إيجاد حلول لمعاناتنا ، إلى متى سنتحمل فشلهم و سرقاتهم و تجاهلهم لوجودنا ، فالبلد باتت على الحديد .”،

شاهد بالفيديو: ندوة خاصة عن دار المسنين 

شهدت الدوائر الحكومية خلال الفترة الماضية طوابير من المتقاعدين يتجمعون لاستلام رواتبهم ، تزامن هذا مع الانتشار الكبير لفايروس كورونا في البلاد ، فأصدرت الحكومة في 30 من آذار الماضي قراراً يقضي بتحديد أيام توزيع الرواتب للمتقاعدين و العاملين في الدولة ، و توزيع الرواتب بشكل تدريجي منعاً للتجمعات ، إلا أن ّ مشهد الطوابير أمام الصرافات الآلية مازال موجوداً ، لأسباب مختلفة أهمها كثرة أعطال الصرافات و توقف عدد كبير منها عن الخدمة..

 

“كان اللّه في عونك يا مواطن ” يقول هذا العم أبو رامي بعد تنهيدةٍ طويلة و يحدثنا عن معاناته قائلاً:

“عملت لمدة 34 سنة في أحد الأفرع الأمنية و أنهيت خدمتي أول الأزمة السورية عام 2011 ، صرفت لي الدولة تعويضات بقيمة (٢٠٠ دولار) حينها و راتب شهري وصل بعد آخر زيادة إلى ( ٥٤ ألف ليرة )من المفروض أن يكفيني أنا و زوجتي طوال الشهر ، لكن ابني المتزوج يعينني في المصروف ، فأنا في عمري ال ٦٧و وضعي الصحي سيء لا يسمح لي بالعمل دائماً ، لكنني أعمل إذا توفرت لي فرصة عمل ملائمة ، و حالي كحال أغلب السوريين نمضي أيامنا في عجز ٍ و تقشف و الهموم تنهش رؤوسنا.”

شاهد بالفيديو: دور المسنين في سوريا تشكو من انعدام الدعم المادي

 

و أكمل:

” أكبر خيبة تعرضت لها خلال وظفيتي أنني بنيت أحلامي على شقة سكنية دفعت ٨٠٪ من أقساطها إذ كان سعر الشقة حينها (٦٠٠ ألف ليرة) ، ليقولوا لي بعد ٤ سنين من إحالتي على التقاعد أن مشروع الشقق السكنية قد أُلغي و ليعوضوا لي ب (مليون ليرة ) لا تكفي لشراء قبر آنذاك ، فأنا لا أنتظر من الدولة السورية أن تكون منصفة بحق المتقاعدين ، فهي لم تضيع فرصة لتخذل و تنهب مواطنيها.”

 

إنّ الخيباتَ في سوريا أصبحت بالجملة و لا تعرفُ صغيرا ً ولا كبير ، فالقلوب المقهورة و النفوس اليائسة ، لم تعد تحتمل وعود الإصلاح المعهودة ولا شعارات الصمود المنشودة ، فمتى يا ترى تُعوض الأطفالُ التي تشبُّ على الحاجة و الحرمان ؟ و متى تُجبر خواطر الرجال التي تشيخ في ذلٍّ و خذلان ؟

 

شيراز البني – خاص دمشق – أنا إنسان 

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *