أخبار

التعذيب بالشمعة حرقاً … قصة حقيقية من فظائع المعتقلات السورية

هاديا منصور

المساعد عبد السلام فجر محمود اسم ملطخ بالدماء ، لا يستطيع وائل الزهراوي (35عاماً) المعتقل المحرر أن ينساه ، فهو رئيس قسم التحقيق في فرع المخابرات الجوية بمطار المزة العسكري ” إنه وحش بصورة بشر” هكذا يصفه الزهراوي نظراً لما فعله بحق المعتقلين في زنزانتهم التاسعة عشرة حيث كانت رائحة لحم صديقه عبد الحي المحترق تزيد وائل يقيناً أنه لن يكون هنالك راحة في ظلمة ذلك المكان طالما أنهم أحياء.

بكثير من الألم والقهر راح وائل يروي تفاصيل قصة صديقه عبد الحي الذي قضى حرقاً بالشمعة في سجون النظام ، الشمعة التي لم تعد وسيلة للرومنسية بل راح مجرد ذكر اسمها كفيل بأن يبعث الرعب في نفوس المعتقلين كونها غدت بيد جلادي النظام أشد فتكاً من كل أسلحة الأرض.

وائل الزهراوي

هو أحد معتقلي المظاهرات السلمية ، حقوقي ، أمضى ثلاث سنوات في سجون النظام ، ذاق فيها كل أشكال التعذيب والذل والهوان ، ليحرر بعدها بأعجوبة ، فكان كمن حيا من جديد .

لم تغب صورة الشاب عبد الحي (30عاماً) ” صاحب الشهادة العليا في الكيمياء المهذب والخلوق عن ذاكرتي يوماً، كان قد أمضى معنا 21 يوماً بعد أن تم اعتقاله في كمين على طريق عربين، ومنذ لحظة وصوله السجن كانوا يخرجونه كل يوم للشبح لأكثر من ساعتين مع كل أشكال الجلد والضرب المبرح ليعود بعدها والدماء تخرج من كل جزء من جسده” يقول الزهراوي شارحاً اللحظات الأيام الأولى من اعتقال عبد الحي.

بعد أن ذاق عبد الحي وعرف معنى الألم والتعذيب الشديد أصبح يخاف من موعد قدومهم ، وعلى وقع اقتراب أصواتهم التي كانت تقترب من باب الزنزانة كان يزحف لإحدى زوايا السجن     وينظر إلى وائل ودموعه تسبق كلماته ، كانوا يريدون منه الإعتراف بأمور تتعلق برفاقه الثوار وقد رفض عبد الحي الإعتراف بها ، يحدثنا وائل عن تفاصيل ذلك اليوم المؤلم قائلاً ” كنت في نصف وعيي بعد أن تورمت قدمي اليمنى لدرجة كبيرة نتيجة الجرح الذي أصابها أثناء شبحي في سقف غرفة الموت كما كنت أنا ورفاقي المعتقلين نسميها لكثرة من يموتون فيها، بدأت خطواتهم تتسارع وشتائمهم تقترب ، لحظات وفتحوا الباب لينادي المساعد اللئيم _ عبد الحي محمد أمين شرف لعندي، كان عبد الحي لا يقوى على الوقوف وكنت بقربه بالكاد أستطيع لمس الأرض بقدمي لشدة الجروح والتقيحات التي فيها ، وهنا رفع المساعد كبله وهوى به على ظهري وهو يقول بصوت مرتفع _ ساعدو يوقف ولا حيوان ” يصمت وائل قليلاً ليتابع بغصة ” ذاك الجبان كان يعلم أنني بالكاد أقف على قدمي ، فكيف لي أن أعين عبد الحي ” ، وأمام صعوبة الموقف ومعرفة وائل بما يمكن أن يفعلوه هؤلاء إن لم ينصاع للأوامر ، حاول جاهداً أن يستند للحائط ويمد يده كي يساعد عبد الحي على النهوض ولكن قدمه انزلقت ليقع فوق عبد الحي ، لم يكن وائل لينسى حتى آخر لحظة في حياته ما فعلوه بهما حينها ، فقد انهالوا عليهما ضرباً بالكبل ( والكبل هو عبارة عن شريط معدني عريض ) وهنا لم يستطع وائل أن يخفي حزنه العميق حين قال ” لقد كان عبد الحي يضع يده فوق مكان جرح قدمي كي لا يصيبني الكبل ، وبدل أن أعينه فقد أعانني” ، يستجمع وائل أنفاسه ويتنهد متابعاً ما حدث ” بعد الكبل العشرين وضع المساعد قدمه فوق صدري بعنف وضربني بكبله على مكن جرحي   فشعرت أن قدمي قد بترت حينها ، لم يغمى علي ولكنني رحت أصرخ بأعلى صوتي فكان يزيد من ضربه لي وبعدها لم أعد أشعر بأي ألم ، فالتفتوا إلى عبد الحي بحقد وسحلوه  من قدمه وأخذوه ، كان يمضي وعيناه تحدقان بي وكأنه  يستغيث ، لقد مضى للتعذيب  ، لقد مضى للحرق، فحين سمعت المساعد يقول حطوه على الشمعة  أصابني  حالة دوار وانهيار تام ” ، عن وسيلة    الحرق بالشمعة التي ابتكرها جلادو النظام يخبرنا وائل بأنهم كانوا يجردون المعتقل من كل ثيابه ثم يضعونه على كرسي مقعر مصنوع من الحديد ، ثم يثبتوا رجليه مع ارجل الكرسي ويربطون جنزير حول خصره مع ظهر الكرسي، ثم يكبلون يديه للخلف بأصفاد الحديد ، فيصبح ملتصقاً تماماً بالكرسي ليأتوا بعدها بصندوق ويضعونه تحت الكرسي مباشرةً فتكون المسافة ما بين الصندوق وجسد المعتقل أقل من عشرين سنتيمتر ، فيضعون شمعة فوق الصندوق فتغدو الشمعة تحت المنطقة الواقعة بين الجهاز التناسلي والمؤخرة ثم يشعلون الشمعة تحت المعتقل وتبدأ بإحراق تلك المنطقة الحساسة في الجسم ليبدأ بعدها الصراخ ” يشق كل صمت هذا العام الرخيص” يصف الزهراوي  ويردف متأثراً ” رغم كل توسلاتنا لم تكن الشمعة لتتوقف أبداً عن أكل اللحم الذي كان يتقطر كالدهن في حالة الشواء ، يبحث المعتقل جاهداً عن أي أي خلاص ، أي شيء يمكنه أن يوقف احتراقه دون جدوى ، وعندما يصل الاحتراق للحم الداخلي تحت الجلد كان يصبح الصراخ عويلاً تعجز عن وصفه كل لغات أهل الارض ونبدأ نحن بالبكاء “.

حين أحرقوا عبد الحي في المرة الأولى أغمي عليه ثلاث مرات وهو ما أغضب المساعد فضربه على رأسه بكبل الدبابة ليوقظه ما تسبب له بعمى عينه اليمنى ، كان عبد الحي يئن كل الوقت من ألمه ، فالحرق في هذا الجزء من الجسد يجعل كل حركة يقوم بها الإنسان مؤلمة لدرجة البكاء ، وهو مضطراً لان يبقى عارياً من ثيابه طوال الوقت.

 كانت الساعة التاسعة ليلاً ، حين فتحوا باب الزنزانة ونادوا على عبد الحي الذي حرق منذ خمسة أيام وجسده مملوء بالجروح ، كان قد فقد كثيراً من قدرته على التركيز ، فلم يعد بكامل وعيه ومع ذلك لم يرحموه ، وسحلوه كعادتهم ، هنا لم يستطع وائل إلا أن يبكي حين قال ” لقد بكى عبد الحي حين أخرجوه من الغرفة ، أشهد بأنه كان رجلاً شجاعاً يخجل من شجاعته حتى الموت ” ويستطرد قائلاً ” بعد دقائق ارتفع عويل عبد الحي وعرفت حينها بأنهم يعاودون حرقه بالشمعة ، كان صوته ينغرس في صدري كسكين ، وبدا لي كم نحن طاعنين في البؤس وتذكرت قول عبد الحي حين قال لي ( خيي وائل في ببيتنا جنينة ورد صغيرة ، وابن جيرانا عمره سبع سنين ، سقطت على بيتهم قذيفة جعلت الولد يطير ويقع فوق جنينة الورد ويسقيها من دمه )، وحينها قال لي متسائلاً ( وين فيه وطن بيسقي حكامو الورود بدماء أطفاله)”.

أدخلوا عبد الحي الزنزانة وكان فاقد للوعي ، رموه على الأرض وغادروا ، بعد برهة عاد عبد الحي لوعيه ، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل ” أمسكت يده وقلت له شد حيلك خيي عبد الحي، وحينها أوحى لي برأسه عدة مرات وعيناه نصف مفتوحتان ، وشعرت بيده كيف كانت تشد قليلاً على يدي ، فاقتربت منه وقلت له أنت عطشان، فهمس لي بأنه لا تتركني فقلت له لن أتركك أبداً ، كم بكيت وتمنيت لو أنني أستطيع انقاذ عبد الحي من مصيره المحتوم ، فالشعور بالعجز هو شعور قاتل ، ما حيلتي وأنا معتقل مثله وعلى مشارف الموت ، كم هو عصي أن يفهم الإنسان بأن كل جريمته في وطنه أنه مواطن فيه ” يتنهد وائل ثم يمضي متابعاً قصة عبد الحي ” في الليل كانت تأتيني حمى نتيجة التهاب جرح قدمي ، فغفوت ويدي في يد عبد الحي ، وعندما صحوت وجدت عبد الحي مفارقاً الحياة ، نعم لقد رحل عبد الحي وتركني هناك وما بقي مني بعده ” ، يلتفت إلى وائل ويقول واعداً ومتحدياً نظام الأسد لما فعله بحقه وحق آلاف المعتقلين ” لن نصالح ولن نرضى ، لن ننسى ولن نستكين ، فليس لأحد أن يكون ولي دماء السوريين ، وليس لأحد أن ينوب عنا فيفاوض على عذاباتنا ويسامح بدمنا المسفوح هناك ، فمن لم يذق ألم التعذيب فلا يتحدث نيابة عنا ، نعم سنهزمهم لوحدنا ، نحن السوريون ، السوريون الحقيقيون ، وسيعلمون من نكون وكفانا ذاك شرفاً”.

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *