الأب العاق والابن الصالح
في البداية ترددنا في كتابة هذا التقرير، لكوننا سنتعرض لحقائق اجتماعية يرفض البعض تقبّلها أو حتى سماعها أو الخوض في نقاش بشأنها، لكن وخلال عمل فريق مؤسسة “أنا إنسان” في المخيمات السورية في لبنان، فوجئنا بحالات اجتماعية زادها واقع الحرب قسوةً، وكان لأطفالهم النصيب الأكبر من تحمّل هذه القسوة أو بالأحرى الظلم والأنانية.
منار وهو طفل سوري لاجئ عمره 12 عاماً فقط، يقيم في البقاع اللبناني، ويعمل في ورشة للحدادة مقابل أجر مالي قدره 10 دولارات في اليوم. خلال الحديث مع منار من قبل أحد أعضاء فريق “أنا إنسان” عن إمكانية عودته للمدرسة من خلال ضمه للحملة التي اطلقناها “من حقنا نعيش بكرامة … لازم نتعلم”، وافق منار لكنه قال لنا : “أنا موافق وبشدة لكن أبي لن يقبل بذلك”، ودون أن يشرح لنا سبب رفض والده.
وعند الذهاب لوالده كان سبب رفضه: “إن منار يعمل لتأمين مصروف المنزل وعندما يعود من العمل يذهب مع إخوته الثلاثة لجمع الخبز اليابس من الشوارع والطرقات وبيعها”، وعند سؤاله عن سبب قيامه بجمع الخبز بدلاً عن أطفاله الأربعة قال إنه يعاني من أوجاع وأمراض تمنعه من العمل! وعندما تم النقاش معه أكثر للضغط عليه للموافقة لإرسال منار للمدرسة وافق بشرط أن يُدفع له مبلغ قدره 500 دولار شهرياً، وبشرط أن يستمر منار في العمل بورشة الحدادة، وقد أصر على شروطه رغم بكاء منار ورغبته الذهاب للمدرسة.
وعندما انتهاء الحديث معه، اجتمع معنا عدد من سكان المخيم مؤكين لنا ألا فائدة من النقاش مع والد منار لأنه يستغل أطفاله منذ قدومه للمخيم حيث لم يذهب للعمل يوماً وكان ومايزال يعتمد على تشغيل أطفاله. فقد قام بتشغيل إبنته القاصر حين كان عمرها 10 سنوات كخادمة في المنازل وحين بلغت 16 عاماً زوّجها لرجل أكبر منها بـ 15 سنة مقابل مبلغ من المال. وبعد فترة تطلقت وعادت الآن للعمل في تنظيف البيوت من جديد تحت ضغط وتخويف من والدها، فيما بدأ بتشغيل باقي أطفاله ومنهم منار منذ أن بلغوا 9 سنوات في مهن مختلفة وخطرة دون أي خوف على صحتهم النفسية والجسدية.
حالة منار ليست حالة فردية، إنما خلال البحث تبين أن هناك الكثير من الآباء باتوا يعتمدون على أطفالهم في كسب الرزق. وبدأت هذه الظاهرة تنتشر بشكل ملحوظ حيث تجد بعض الأباء يجلسون في المخيم فيما يذهب الأطفال للعمل. طبعاً هناك كثير من الآباء يعملون بجهد لأجل مستقبل أطفالهم، لكننا نتحدث هنا عن فئة أقل ما يمكن وصفها بـالظالمة والأنانية، وهي من تقف عقبة في وجه تعليم أبنائها وتساهم في تدمير مستقبلهم.
إضافة إلى ذلك، هناك عائق آخر منتشر وبقوة ويمكن اختصاره بــ “العرف الشعبي” لدى بعض الأسر التي ترفض تعليم أبنائها، فهؤلاء لا يؤمنون بأن التعليم سوف يؤمّن مستقبلاً جيداً، بل يعتقدون أن الحِرَف التقليدية مثل الحدادة والنجارة والحلاقة وغيرها، هي التي تؤمّن المستقبل المادي الجيد للأطفال. وتجد هذه الأسر تحارب أي مشروع لتعليم أطفالهم، وتدفع بهم بقوة نحو سوق العمل وأحياناً بعمر 9 أو 10 سنوات دون السماح لهم بالذهاب للمدرسة. وقد كانت هذه الظاهرة ممنوعة في سورية لكون التعليم كان إلزامياً حتى انهاء الفترة الابتدائية على الأقل. هذا العرف الشعبي الذي يعتبر من سمات جهل هذه الأسر، كان سبباً في تدمير مستقبل الكثير من أطفال المخيمات، والقضاء على أي فرصة لهم لإثبات أنفسهم في مجال التعليم.
وعلى الرغم من أن الكثير من الأطفال لديهم بالفطرة حب الذهاب إلى المدرسة والتعلم، فإن مشكلات اللجوء والفقر أُضيفت إليها أنانية بعض الأهالي وجهلهم، مما شكّل المزيد من العوائق في وجه تعليم الأطفال وبناء مستقبلهم.