أخبار
دلياد بوزان

تذاكر النسيان باهظة الثمن يا أبي

دليار بوزان

هذا الوطن لم يعد يكبُر يا أبي ،يصغرُ يوماً بعد آخر ،يبكي طوال الوقت ،يدخلُ سباته الشتوي ،يدلي ستائرَ الحزن من جديد ،يغلق نوافذ الأمل ،يعدُّ دقائق الانتظار كعادته ،كما أنَّ عقاربَ الساعةِ تتثاقل ،تتكاسل مع الليل ،كم هي طويلةٌ ليالي الشتاءُ يا أبي ،طويلةٌ بحجم هذه الحرب التي نهشت أجسادنا و نخرت عظامنا ،التي رمتنا بمنجنيق نمرود إلى مدينة ابراهيم ،هل حقاً كان الخليل هنا ؟

يوم بدأت التغريبة نحو الشمال في أيلول المأساة ،وبدا الألم والدمع مائدة كل مساء ،كانت تمتماتُ الفم أقربُ الطرق إلى السماء ،كانت تبعدنا مئات الكيلومترات عن آخر وداعٍ مع الحياة ،كلُّ الأماكن والمحطات تُذكر بالألم يا أبي ،خيامُنا المبعثرة ،حقائبنا الثقيلة ،وداعنا الكئيب ،سيارة “السكودا” ،دمعك يا أبي ،دمعُ أخي الذي شاهدته لأول مرة ،حيرة أختي الصغيرة التي لم تستوعب ما الذي يحدث بعد ،صلوات أمي ،الطريق الترابي ،الأيادي الملوّحة من الأصدقاء الصيادون على القناة ،الكلاب التي نبحت خلف السيارة كثيراً ،محطةُ القطار في قونيا ،المسنُّ الجالسُ بقربِ الباب ،المجنون الذي كان ينظرُ إلي طوال الطريق ،الأمطار الغزيرة والفيضانات في قراتاش ،تعطلُ السكةِ هناك ،صوت العجلات المزعج ،الساعة الثانية ليلاً ،بردُ ينجي وسكونها ،أغنية فيروز”أديش كان في ناس” ،البطانيات القديمة ،المقاعد الخشبية ،الانتظار الطويل ،ميرسين قبل استيقاظ بحرها ،ترسوس المحطة الأخيرة ،بربروس ..

بعد أيلول الموت يا أبي ،بتنا مُغتربين ،نجوبُ شوارع المنفى ضائعين ،بلا وجهةٍ مع الريح ،في فضاء الوجع المنسي ،هل كان الوجع وجعاً ؟، كيف كان لونه ،طعمه ،شكله ،رائحته …؟
من يومها اختصرتُ الوطن في جملٍ وكلمات ،وجدته في الكتابة فقط ،جعلتهُ قصيدةً بلا قافيةٍ ووزن ،الوطنُ أكبرُ من القصائدِ يا أبي ،تعجبتُ بالحنين الذي يرافق الشتاء ،ماأجملك يا وطني في وحدتك..! أردتُ له بعض الفواصل والنقاط لعله ينطق أخيراً ،وضعته في صيغة السؤال ،هل أصبح لقاءك يتطلب حدوث معجزةٍ يا وطني ؟

هذه التفاصيل الصغيرة والكبيرة، تؤلم الذاكرة حينما تستيقظ على تذكرها واستحضارها ،الأشياء الثمينة تضيعُ منك في غفلةٍ وأنت تحاول أن تخبئها وتحتفظ بها في إحكام ،الوطن ضاعَ منا يا أبي ،هل كان جيبي مثقوباً حين سقط منه أم أنني نسيته هناك ،عندما كانت الروح أغلى من كل شيء ….حتى الوطن يا أبي ،،هذه الصور التي لا زالت موجودةً في الهاتف واللابتوب ،لا بدَ أن تُعيِد بك شريط العمر إلى الأطلال والمأساة ،مشهدُ جدي وجدتي والدمع والليل والسفينة، كيف سيمحوه السنين والأيام ،كيف لهذه الروح أن تتحمل كل هذا ،تذاكر النسيان باهظة الثمن يا أبي ؟

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *