أخبار
سأخرج من دمشق

سأخرج من دمشق … حين تتوقف المدفأة

نسرين عزام 

هذه القطرة رقم 50 … لا شيء أصعب من أن تجلس أمام المدفأة تعدُّ بألم كبير كل قطرة تسقط في محرقتها ، أشعر و كأنني أحرق قطعة من ثيابي، و كأنني أحرق كل ما أملك من نقود، فعلياً لقد حرقتُ أغلب راتبي في سبيل شراء 30 ليتراً من المازوت.

 قمتُ بتقسيم وقت التدفئة على عدة مراحل،  المرحلة الأولى تبدأ بعد غياب الشمس وتستمر قرابة ساعتين على الأكثر إلى أن يتخلص قلبي من الجليد المتجمع في شرايين جسدي، في هذا البرد يأخذ القلب حياته من المدفأة ليتمكن من ضخ الدم في أرجاء هذا الجسد التعيس.

المرحلة الثانية في 12 ليلا حين يشتد البرد أشعلها لمدة ساعتين أيضاً ثم أضع ما تيسر عندي من أغطية فوق جسدي وأنام حتى بزوغ الفجر.

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة (قدوم الضيف) وهي مرحلة شبه معدومة، فلا ضيوف ولاقدرة لي للنقاش مع أحد في هذه الأيام الصعبة وتحديدا حول هذه الحرب المعلونة.

مدفأة الكهرباء تساعد بين الحين والآخر في تقديم بعض الدفء ، فالكهرباء صارت مثل أعياد بابا نويل و الفالنتاين تأتي مرة واحدة في السنة، وحين تأتي أشعر وكأن الحياة عادت من جديد، أسرعُ إلى تعبئة الماء وشحن بعض الأجهزة الكهربائية، وبينما أتابع العد التنازلي  لقطرات المازوت رحتُ أتصفح الفيسبوك بسرعة قبل أن تنفد بطارية هاتفي، وكأنه كُتب علينا أن نعيش على خوف دائم من انتهاء أي شي نملكه بدءاُ من قطرات المازوت وخزان المياه وصولاً إلى بطاريات هواتفنا المحمولة .

 المهم و أنا أتابع الفيسبوك وجدتُ صديقة وصلت حديثاً إلى ألمانيا كتبت منشورا تقول فيه أنها تشتاق إلى دمشق، فعلقتُ لها قائلاً: ودمشق تشتاق إلى نفسها أيضاً، فردت بتعليق يحتوي إشارة استفهام دلالة على عدم فهمها ما كتبت ، نعم … هي تشتاق لنفسها، كما أشتاقُ لها أيضاً، دمشق -يا صديقتي- هي ذاتها لا تعرف من تكون، فقد صارت مدينة أشباح بامتياز، الناس فيها سكارى من شدة الوجع، ولا تصدق من يضحك بوجهك فقد يكون مصاباً بداء الهلوسة وفقدان التوازن، وكلمة مواطن يشعر بالسعادة صارت مفقودة تماماً ، مثل قميصي الأبيض الذي لم أقم بغسله منذ أشهر طويلة، فما نفع أن يكون نظيفاً ضمن شوراع متسخة ، ضمن مدينة ملأ السواد قلوب ساكنيها، فاللون الأبيض هنا بات غريباً وقد يحاكم بالسجن والاعتقال إن كان بياضه ناصعاً أكثر من اللازم، فهو كالحقيقة قد تؤذي كل من يراقب الطرقات.

 عادت صديقتي و أصرت على فهم معنى جملتي التي علّقتُ بها على منشورها ووضعت إشارة استفهام أخرى، فعلقت لها :” دمشق مشتاقة للحنان ، تشتاق للمياه لكي تعود إلى مجاريها من جديد”. هنا فرغت البطارية لدي ولم أعلم ما حصل بعدها ، وعدتُ أراقب من جديد قطرات المازوت ، و كلي خوف أن تنتهي فلا قدرة لي أن اشتري أكثر من هذه الليترات هذا الشهر.

 أنا أعلم أن دمشق تشتاق لنفسها … تشتاق للحنان وللمياه لكي تعود لمجاريها لا على دماء ابنائها، وأعلم أن ارتباطي بهذا المكان سوف ينتهي مع أول فرصة سفر تتوفر أمامي … ولكنني لن أشتاق لها، لأنني منذ هذه اللحظة أشتاق لدمشق الحقيقية … دمشق التي كانت من قبل … وليست كما هي اليوم ، قد أصمد … لكن عندما تتوقف المدفأة سأغادر مع أول فرصة لي … نحو دمشق أخرى.

 

التعليقات: 1

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *