“لأجل سما” وذكريات متقرحة
ليست سمر وحدها من كانت قد احمرت عيناها من شدة البكاء بعد أن انتهى عرض الفلم، بل كنت أنا و كل الاثني عشر سيدة اللاجئات في تركيا مثل عينيها أو أكثر، نشاركها الشعور بصعوبة التقاط الأنفس، وبالاتفاق على أن فلم “لأجل سما (for sama )”، والذي دعينا جميعاً لمشاهدته من قبل صديقة حصلت على رابط الفلم، قَلب علينا مواجعنا، وايقظ في كل واحدة منا ذكريات مالبثت أن تركن في جنبات أرواحنا بسلام.
بيتي، ياحبيبي
كما ودعت وعد الخطيب في الفلم بيتها في حلب بغصة ، كان وداع “حياة” (إحدى السيدات اللواتي شاهدن الفلم) لبيتها في أريحا. ” ودعت كل قطعة في المنزل قبل قرار لجوئي إلى تركيا في أواخر 2014 ، سألت كل أغراض البيت أن تبقى سالمة حتى عودتي. ” تحدثنا “حياة” وترفع نبرة صوتها أكثر: ” كان منزلي سكينتي ومستقري، بعد رحلة طويلة تنقلت فيها بين بيوت الآجار، كلفني بناؤه سنوات من الصبر، ومن ادخار المال. حرصت على أن يكون نظيفاً دائماً، واجتهدت في الحفاظ على صوفاياته وكنبياته وحتى مقابض أبوابه …على كل أغراضه، لتبقى جديدة وكأنها ابتيعت تواً”.
شاهد بالفيديو : الفيلم السوري “من أجل سما” المشارك في مهرجان كان …حب وأمل تحت القصف والحصار …
ترخي “حياة” ظهرها على الكرسي : ” محظوظة أنا لا انكر، مقارنة بيني وبين نساء أخريات، فلم أفقد زوجي أو أحداً من أفراد عائلتي “، تشيح بوجهها عن الجميع وترنو عينيها بعيداً وتقول:” ولكن تباغتني الذكريات فجأة، فأشاهدني مع زوجي نتنفس الفرح حين أكتمل بناء منزلنا ، وأشاهدني وأنا أشتري أغراض مطبخ منزلي كما أحب وأشتهي. أشتاق لكل ركن ولكل زاوية فيه ، اشتاق لبيتي الحبيب في أريحا”.
” للأماكن أرواح” كان تعليق إيمان الشامي على حديث ” حياة ” عن بيتها.
وتكتض الغرفة بحديث النساء الحلبيات وهن كن أكثرنا عدداً، عن الأماكن والمناطق المصورة بـ “كاميرا” وعد الخطيب في الفلم، كحيطان جامعة حلب المزدانة بعلم الثورة، كأحياء حلب الشرقية تغلقها المظاهرات، ويحاصرها النظام لاحقاً بعنف ، وكمجزرة نهر الشهداء والذي ماتزال ذكرياتها حاضرة بقسوة.
نهر قويق ( نهر الشهداء)
ترجع ذاكرة إيمان إلى مشاهد الاعتقال والتنكيل بالمتظاهرين: ” أذكر القبضة الأمنية الشديدة التي مارسها النظام على مظاهرات حلب الشبابية ، وتفاصيل جمعة أطفال الحرية في ربيع 2011، حاضرة جلية في ذاكراتي، فقد كنت أنا فيها، عشت اللحظة. مئات من الأطفال خرجوا يحملون الورود، قوبلت وردهم وطفولتهم برش مباشر من المبيدات من قبل شبيحة النظام، ليسقط أول ثلاثة صفوف من الأطفال بالأرض اختناقاً”.
” عشرات من الجثث المنتفخة أجسادها والمكبلة أيديها، أخرجت من نهر “قويق” في بدايات 2013، لم أرى المنظر، ولكن أستطيع أن أصف حالة أخي وكأنه يقف أمامي الأن وهو يحدثنا عن جثث الشباب الذين تم انتشالهم من النهر. كان أخي يرتجف وهو جالساً، وتكاد عينيه تنفقأ من شدة الضغط عليهما كي لا ينفجر شلال الدموع المحبوس فيهما” تقول إحدى السيدات الحاضرات ذلك ، فتنفعل إيمان وتقول بنبرة خطابية : ” قد تكون ادمغتنا قد ارتاحت ولو فترة آنية عن اجترار ذكرياتنا عن المجازر، وعن الدماء التي اختلطت بطعامنا وشرابنا، ولكن بعد مشاهدتي لفلم سما، بدأت تتناوب ذكرياتي عن كمية الظلم التي شهدتها في حلب، على إيلامي، وإعمار قلبي بالقهر. ومن جهة ثانية أنعش الفلم فيي ذلك الإصرار بأنه يجب أن لا نتوقف ولو للحظة عن المطالبة بالحرية، وأن يبقى أمل العودة إلى سوريا مستيقظاً فينا”.
تقرير لـ BBC قصة الرضيعة السورية سما التي هزت مشاعر جمهور مهرجان كان
“الأمل؟!” وتطلق سمر مع كلمتها هذه أوف يائسة طويلة. وسمر وعلى حد قولها حاولت أن تتذكر الأماكن والأحياء الحلبية التي شاهدتها في الفلم بصعوبة، غير أن عشرات من ذكرياتها الأخرى خرجت دفعة واحدة بعد أن شاهدت الفلم.
الصراخ المخنوق
تقول سمر: ” دخلت في حالة من الانهيار العصبي أواخر عام 2013، كنت أجلس في ممر منزلي في حي الأنصاري الشرقي، ويختنق الصراخ في حلقي، عندما تبدأ الصواريخ بالتساقط. لاحقتني الكوابيس قبل ذلك لتقض مضجعي ليال طويلة، كلما أتذكر كيف وجدت قدمي تنزف دماً بسبب شظايا القذيفة التي سقطت بجانبي، وكيف تعرضت صديقاتي للضرب المبرح من قبل شبيحة النظام في إحدى المظاهرات. ذات مرة أصابتني حالة من الصراخ الهيستيري لأسقط بعدها دون وعي، كان سببها سقوط البراميل المتفجرة بجانب غرفة نومي والتي أدت لتشقق جدران الغرفة وانهيار شباكها، وتناثر شظايا البراميل حولي وأنا نائمة في السرير” تعاود سمر إطلاق التنهيدات وتتابع: ” تحضر في مخيلتي الأن صورة الطفل الصغير الذي أرداه القناص على الأرض ميتاً، عندما كنت أعبر مع زوجي وأولادي المعبر الواصل بين حيي الخاضع لسيطرة الفصائل والمناطق المسيطر عليها النظام، وصورة أطفالي وهم يتراكضون في المنزل لحظة افراغ الطائرات لحمولتها، يحتمون بها خلفي ، وأنا لا أقدر على فعل شيء سوا الصراخ الذي يختنق في صدري “.
شاهد الفيلم كاملا هنا :
https://www.youtube.com/watch?v=nsBuJWCo7uk
” وهل هناك سوري لا يعاني من اضطراب نفسي ؟” تقول إحدى السيدات.
وتتطايير ذكرياتنا المتقرحة في الغرفة، نعالجها بالصبر والمصابرة، وبأمنيات ودعوات لسوريا وأهلها . ثم نفترق جميعاً وتعود كل واحدة منا إلى حيها ومنزلها المنتمية إليه قسراً في بلاد اللجوء.
وردة الياسين