من سرق يوم الجمعة من حياة السوريين؟
الساعة: الرابعة صباحاً. اليوم: الجمعة. يرن منبه جهاز الخليوي. يستيقظ كل النائمين في البيت، ولا يتحرك الرجل من نومه العميق، إلا أنه مع إصرار الهاتف على الرنين يبدأ بالصحو، وبين النوم والصحو، يفكر: «اليوم جمعة. إنها العطلة. ألا يفترض أن أبقى نائماً حتى العاشرة أو ما بعد»، لكن ذلك لا يحدث، ينهض الرجل ويبدأ نهار طويل من الشقاء.
أحمد (اسم مستعار لشخص طلب عدم ذكر اسمه) في الخمسين من عمره، يحمل شهادة في الاقتصاد وموظف في مؤسسة التبغ بصفة مدقق مالي، وبعد أكثر من عشرين عاماً في الوظيفة لم يتمكن من شراء بيت صغير، ويعيش مستأجراً في منطقة المشروع اﻷول باللاذقية، ويدفع إيجاراً شهريا قيمته 30 ألف ليرة (50 دولاراً أمريكياً)، يخصصها من راتبه البالغ 45 ألفاً (75 دولاراً تقريباً)، فيما يبقى راتب زوجته لأمور الحياة اﻷخرى.
يصطاد السمك يومي الجمعة والسبت، ويبيع حصيلته ﻷحد التجار الصغار الذين يحضرون إلى مناطق الصيد الممتدة من شاطئ حي الرمل الفلسطيني (مخيم أقيم العام 1952 على أراضي مستملكة لصالح الهيئة العامة للاجئين العرب الفلسطينيين) حتى شاطئ منطقة اﻷبحاث.
تختلف كميات الصيد اليومية ولكنها تتيح في بعض اﻷحيان تأمين مبلغ يكفي لسداد أقساط البنك العقاري للبيت الذي ينتظر في سكن الشباب منذ عشرة أعوام على اﻷقل.
حال أحمد يشبه حال الكثير من السوريين مع اختلاف بعض التفاصيل، لكن ما يجمعهم هو الواقع السوري الراهن الذي يضيق الخناق يومياً على حياتهم الاقتصادية، لتتحول بالتدريج جموع الناس إلى آلات تعمل من “الفجر إلى النجر” (كما يقول أحد الأمثال السورية الشعبية للدلالة على العمل لوقت طويل ينتهي في وقت متأخر ليلاً)، وسط غلاء فاحش، وغيابٍ للأجهزة الرقابية.
زحمة الجمعة
الجمعة. يوم العطلة السوري التاريخي بامتياز، سواء لموظفي القطاع العام أو الخاص ولأصحاب المهن الحرة، وفيه تقاليد راسخة، كان أبرزها «السيران» (رحلة متواضعة الميزانية إلى الطبيعة)، أو تناول وجبة في مطاعم ذات أسعار شعبية و”خفيفة على الجيب”، أو حتى مجرد خروج إلى المشي على الطرقات القريبة، لكن ذلك يكاد ينقرض لدى كثيرين في الساحل السوري كما لدى بقية السوريين على ما يبدو.
تعمل منى سكرتيرة طبيب (فضلت ألا تذكر اسم العائلة فالحديث إلى الصحافة تهمة) بأجر لا يتجاوز 50 دولاراً بدوام كامل مع استراحة غذاء لمدة ساعتين ظهراً، فيما يعمل زوجها يوم الجمعة أيضاً، مثل كثيرين فيخرج إلى سوق الجمعة ليبيع ما تيسر له من مواد أثاث يشتريها مستعملة، ويبيعها مرة ثانية بربح يتيح لهم إكمال حياتهم وتعليم أولادهم الثلاثة الذي يحتل المرتبة اﻷولى في سلم أولوياتهم، إلا أنهم غير «قادرين على السياحة الداخلية، ولا السيران ولا أي شيء. الأجور تكسر الضهر، ولدينا دفع “ﻷلف شغلة وشغلة”. الدروس الخصوصية للأولاد أساسية. قبل عام بعنا سيارتنا الصغيرة كي نستطيع تأمين دروس البنت الكبيرة في الثانوية العامة، والتي كلّفت لوحدها قرابة مليون ليرة (2000 دولار)».
في العادة حركة الناس يوم العطلة -والجمعة على وجه التحديد- تكون قليلة، لكن جولة في أسواق مدن اللاذقية وجبلة وطرطوس وبانياس -مدن الساحل الرئيسية- تبين أن ذلك لم يعد صحيحاً، حيث تحول يوما العطلة الرسمية (الجمعة والسبت) إلى يومي عمل يضافان إلى بقية أيام الأسبوع المزدحمة بالأعمال، فكثر يعملون في أكثر من مهنة، وإن سمح الوقت فلا بأس بعمل ثالث.
السبت المزدحم
كما الجمعة كذلك السبت. الشوارع مزدحمة. يوضح إبراهيم إبراهيم (اسم مستعار) صاحب محل لبيع الفلافل في منطقة الشيخ ضاهر (منطقة شعبية في اللاذقية) أن الحركة في السوق يومي الجمعة والسبت باتت تقريباً كباقي أيام الأسبوع، لذلك فقد قرر بالاتفاق مع شغيلته أن يفتح يوم الجمعة، حيث يقول: «نعمل تقريباً نصف نهار. الشغيلة تستفيد ونحن كذلك. لم يمانع الشغيلة العمل يوم الجمعة رغم أنه يفترض أنه يوم راحة لهم، لكن الوضع صار أصعب وأصعب، على فكرة ليس عليهم فقط، بل وعلينا نحن أيضاً، مع ارتفاع اﻷسعار في كل شيء، يقل شراء الناس».
ومع اقتراب فصل الشتاء تزيد الضغوط على العائلات بشكل كبير، خاصة في شهر أيلول حيث نفقات المدارس التي تضاعفت أربع مرات على اﻷقل. يقول زين صاحب مكتبة في المشروع السابع باللاذقية «إن أسعار الدفاتر تضاعفت بسبب الدولار. تضاعف سعر طن الورق، الدفتر الذي كان سعره 200 ليرة أصبح 800 ليرة، وبالمثل الحقائب والقرطاسية، سعر الحقيبة قفز من 2500-3000 إلى 5-6 آلاف. حقيقة لسنا سعداء بما يجري، سابقاً كان مبلغ 10 آلاف ليرة يكفي عائلة، ولكن اﻵن لا يكفيهم خمسون ألف ليرة (100 دولار)».
المدرّسون هم أيضاً تحولوا إلى العمل يومي الجمعة والسبت، يقول عمار (مدرّس لغة عربية) إنه لا يعرف ليله من نهاره، «التدريس يوم الجمعة صار جزءاً من حياتي ولا أرى عائلتي إلا نادراً، ماذا نفعل إذا كان يلزمنا للحياة شهرياً مئة ألف على اﻷقل كي نعيش، بلا سياحة، ولا زيارات، ولا نخرج من البيت إلا للعمل. يا رجل إن كان سعر كيلو الجوز اللازم للمكدوس قد قفز من ألفين إلى خمسة أو ستة آلاف ليرة، تخيل!».
الشكوى نفسها على لسان زوجته ديمة (مدرّسة رياضيات)، لكن باختلاف التفاصيل: «الجمعة أستيقظ في السادسة صباحاً، أجهّز نفسي ﻷول درس في السابعة صباحاً، اضطررت إلى الاتفاق مع جارتي لتأمين أولادي يوم الجمعة كي أستطيع إنهاء الدروس، صدّقني ليس طمعاً، كل ما نتعب به كل الشهر لا يكفي لدفع نفقات البيت والنقل والاتصالات وفواتير الكهرباء والماء وغيرها».
فيما تحولت المعاهد الخاصة يوما الجمعة والسبت إلى ما يشبه مدارس نظامية، حيث تزدحم بالطلبة في ظل تردي العملية التعليمية في المدارس، بحجة الوضع المعيشي السيء للمعلمين والمدرسين وغيرهم من شرائح المجتمع، حيث يبلغ راتب مدرّس قضى ربع قرن في التعليم في سوق الدولار قرابة 60 إلى 75 دولاراً، وهي لا تكفي لدفع ثمن الطعام أو الشراب لعائلة مؤلفة من ثلاثة أفراد فقط.
تقول ريتا وهي مدرسة من ريف حمص تدرّس في أحد المعاهد: «صدّقني لا يوجد مدرس يحب أن يكون نهاره وليله متشابهين إلى درجة حرمانه من لقاء عائلته يوم الجمعة أو السبت، لو كان راتبه يكفيه لزاد عطاؤه في مدرسته واستغنى تلقائياً عن الدروس الخصوصية و”تعب القلب” كل يوم»، فيما الضحية الثانية لعطلة يوم الجمعة هم الطلبة أنفسهم الذين تحولت حياتهم إلى يوم دراسي طويل، إذ تقول راما (طالبة ثالث ثانوي): «أي استراحة؟ لا أخلع ثيابي إلا للنوم، دروس على مدار الأسبوع ليل نهار، كل يوم دوام للمساء، أشعر وكأنني سأتحول إلى روبوت حتى نهاية العام الدراسي».
ارتفاع الدولار وارتفاع التجار
ليس ارتفاع الدولار مقابل الليرة، حيث أصبح تقريباً في سقف 700 ليرة مؤخراً ثم انخفض إلى 600 ليرة -وقد يكون أعلى أو أقل لحظة نشر هذه المادة- هو السبب الوحيد في تدهور الوضع الاقتصادي للناس في الساحل وفي سوريا عموماً، فلا يمكن تبرئة تجار الحرب الكبار ممن يقومون باستيراد المواد بالسعر الرسمي للدولار (435 ليرة)، وبيعها بسعر السوق السوداء (600 ليرة كحد أدنى)، وهذه التجارة يسيطر عليها في الساحل كما في مناطق سوريا اﻷخرى أسماء معروفة بارتباطها بالأجهزة الحكومية و اﻷمنية، وأي محاولة للاحتجاج ستودي بأصحابها إلى التهلكة.
مع الوضع العام للبلد وتقطع سبل الاتصال بين مراكز اﻹنتاج ووجود عشرات الحواجز العسكرية التي تتقاضى على كل ما يمر منها مبالغاً من المال تختلف حسب السلعة، فإن تكاليف السلع تزداد، حيث يقول أحمد: «إن كل ما يدفعه التاجر أو المورد للجمارك والحواجز والبلدية وغيرها يوضع على السعر اﻷساسي للسلعة، حتى الخضار القادمة من الساحل إلى الداخل أو العكس لها حصتها التي تدفعها إما للترفيق (مصطلح مستخدم محليا في سوريا ويعني وجود مرافقة مسلحة لحماية البضائع خلال التنقل بين المحافظات) من قبل شركات أمنية تابعة ﻷشخاص معروفين في البلاد، وإما أن تدفعها للحواجز على الطرقات، هكذا يصبح سعر كيلو البندورة في دمشق 500 ليرة مقابل 200 في الساحل، وغيره كثير».
غياهب النسيان
تتفق الغالبية ألا استراحة ولا ساعة نوم إضافية يوم الجمعة ولا السبت. كثير من الناس ينهضون في يومي العطلة مستعجلين ليرتدوا ثيابهم على عجل. يأكلون ما تيسر من طعام، فيما تغيب صحون الفتة والحمص والمسبحة عن الموائد، ويغيب معها طقس اجتماعي كان أثيراً على قلوب السوريين من اجتماع العائلة في يوم العطلة، لكن يأمل البعض أن يكون واقعهم الجديد هذا مؤقتاً وسط حياة استثنائية يعيشها جميع السوريين وليس أهل الساحل فقط،، حيث تقول سمر (22 عاماً. طالبة جامعية من مدينة حلب) تعمل في مطعم في منطقة الزراعة في اللاذقية: «ثلاثة من إخوتي أصبحوا في غياهب النسيان، وعليّ أن أعيل أبي وأمي، أحلم بساعة نوم إضافية يوم الجمعة، لعل الغد يكون أفضل».