أخبار

سلمى … حكاية لجوء في واقع لا يعرف الرحمة

وصلت آلاف النساء السوريات إلى لبنان، لاجئات ووحيدات بدون معيل أو زوج، يتأبطن صغارهن وكوابيس الموت التي تلاحقهن أينما كانوا، وكأن الله تخلى عن هذه البقعة من الأرض.

أعين مفتوحة تبحث عن الأمان، بينما كانت كتل اللحم المتكدسة تنتظر الطعام الذي عزّ حضوره في بلد يتقن فن الجمال والموضة، ولا يتقن التعايش مع الفقراء والبائسين.

من العنف الجسدي والنفسي، وصولاً إلى العنف الجنسي الذي تتعرض له بعض النساء مقابل خدمات هي أصلاً حاصلة بشكل تلقائي، لكن الخادم الأمين صور لهن ذلك بأنه معجزة كبيرة تتحقق على يديه فقط، مقابل غرس يديه في اللحم، وإفراغ شهوته في أجساد فقدت كل إحساس بالمتعة بعد أن تأبطت الموت طويلاً، ونامت بين أحضانه في سوريا المشتعلة.

تلك الكوارث التي تدمي القلب والروح صاغتها اللاجئة “سلمى” عندما وصلت مع أبنائها الثلاثة إلى البقاع في السهل الواسع، بدموع لم يقف سيلها حتى اللحظة، وهي تنتظر خبراً ولو سيئاً عن زوجها المعتقل في سوريا، هل هو حي أم ميت، هل هو في أقبية النظام، أم مازال مختطفاً لدى تنظيمات لا تعرف أسماءها.. ووسط هذا السواد، كانت يد رجل يمثل إحدى الهيئات الإغاثية كفيلة بأن تجعلها صاحية لما هو قادم، فالإنساني الخاضع لكل دورات التدريب على الكوارث والإغاثة والمخاطر والإسعاف، لم يجد مدربوه ورقة واحدة تدربه على الأخلاق، وكانت يده التي تطبطب بحنان جمّ على كتف سلمى يد شيطان يتربص بالمرأة العشرينية البائسة، وعندما علمت نواياه، قررت ترك المخيم، والهروب نحو الداخل اللبناني لعل في هذا العالم من يتقن فن الإنسانية.

كان ما تبقى من ذهبها كفيلاً بأن يصنع منها عاملة، واكتشفت بعد أن لجأت إلى أحد الأقارب في بيروت الذي كان يعيل أسرته من خلف عربة فول، فقررت شراء واحدة مثلها، وتعلم صنع الفول والترمس، رامية بكل أوراقها في ذلك، فتأمين الطعام لأطفالها الثلاثة أهم من الملبس والسكن طالما يحفظ لها كرامتها.

يقول الشاب السوري “يزن غبرا” الذي تابع حالة سلمى عن قرب: على كورنيش الروشة، امرأة سورية بسبعة أرواح، تتقن أكثر من خمسة عشر نوعاً من الموت، وعلامات الذل والهوان تبدو واضحة على محياها، دون أن يمنعها ذلك من الإيمان بالله ورسله وأولي الأمر من بعدهم..  كانت تدفع عربة الفول بمساعدة من ستة أيدي صغيرة اجتمعت بفرح لدفع تلك الآلة اليدوية الثقيلة..  كان السخط والتشرد يحيط عينيها بهالة سوداء، ويمزق قلبها العاثر، ولكنها وضعت ابتسامة خفيفة على شفتيها، ووقفت تنتظر الفرج.

وعلى الرغم من مخاطر مصادرة العربة والبضاعة من قبل الشرطة اللبنانية، إلا أنها كانت على يقين بأن هؤلاء سوف يرق قلبهم لها، خاصة بعد أن يتذوقوا طعامها النظيف، ونكهته الذي أضفت عليه من روحها وأنفاسها الكثير حتى يباع بسرعة.

جلس أطفالها خلفها متلحفين السماء بثياب رثة، وأحذية مهترئة، لا يفعلون شيئاً سوى الانتظار .. وهل لهم فيره بعد أن دمرت كل أدوات لعبهم، وقصفت مدارسهم وملاعب طفولتهم؟.

بالقرب من سياج “الروشة” في مدينة “بيروت”، اقترب رجل أربعيني منها هامساً، وكأنه زرع خنجر في كبدها (مو إلك هيك شغل .. رح لاقيلك شغل أحسن). شعرت للحظات أن الدنيا لازلت بألف خير، ولكن عندما عرفها على ماهية العمل صرخت بكل ما في قلبها من سواد: الله لا يوفقك يا أبن الحرام..

تقول الباحثة والناشطة لمى الجردي أن هناك دراسات كثيرة تصدر بشكل دوري عن العنف والاضطهاد الذي مورس على النساء السوريات في لبنان، لكن القصص والأرقام ما زالت غائبة. رغم وجود المنظمات غير الحكومية التي تعمل على تأهيل النساء، وتمكينهن من الصمود، لكن الأعداد الهائلة تمنع الوصول إلى جزء كبير منهن. وهو ما يجعل العديد منهن عرضة للابتزاز والتعنيف الجنسي مقابل خدمات بسيطة.

78 % من اللاجئين السورين هم من النساء والأطفال، والحكومة اللبنانية هي بالأساس غير قادرة على تأمين الاحتياجات الصحية للمواطنين اللبنانيين، ولذلك فالمساعدات التي تقدم للسوريين تبقى قليلة جداً، وقد تنعدم في بعض المناطق البعيدة عن المركز، مثل المخيمات. وهو ما دفع بسلمى للقدوم إلى بيروت، فهل ستستمر بالصمود وتحافظ على كرامتها؟.

سؤال يبقى في المجهول، وتعترف أنها تطمع أن تجد طريقة للوصول إلى الغرب، لعل الدولة التي تبرطم بكلام غير مفهوم تكون أرحم عليها وأولادها من لغة القتل والدم والتشريد.

سامر النجم أبو شبلي

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *