«عبيدة» ماسحة الأحذية التي هجّرها الحب
خلف صندوق خشبي متواضع؛ مدت عبيدة المولودة في “النبك” عام 1979 قدميها المتعبتين لتنظف وتزين أحذية زبائنها في بلدة “جرمانا” بكل محبة ورضا، طمعاً بحياة كريمة؛ لا تلجأ بها إلى أحد؛ بعد أن نفاها أهلها، وغدر بها زوجها.
اكتشفت عبيدة أن زوجها متزوج ولديه أولاد، كان ولدها الوحيد في الرابعة من العمر، ولكنها لم تستطع أن تحتمل كذبته وغدره، فقررت الطلاق، لكن أهلها طلبوا منها العودة من دون ولدها، فلم تستطع تركه، فتركت الدنيا ورحلت بعيدة عن عالمهمـ لتبدأ حكاية نزوح “عبيدة” المستمرة منذ ثماني سنوات.
“عبيدة” التي تحب اسمها كما هو؛ على الرغم من غرابته، باتت حديث الشارع في مدينة جرمانا بريف دمشق، فالسيدة التي استقرت بغرفة عادية، ومطبخ وحمام مشترك في إحدى الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان؛ تعتبر نفسها الآن من السكان الأصليين، ولا تؤمن بأنها نازحة أو مهجرة، فهي نزحت من حياة الإهانة، وهجّرت قلبها من القلمون كي تنسى قسوة أهلها وأشقائها الذين تخلو عنها وقت الشدة.
كانت تحمل كمية كبيرة من المحارم الورقية من دمشق القديمة إلى جرمانا سيراً على الأقدام، وعملت في جمع الخبز اليابس ونقله على ظهرها إلى التجار، بمساعدة ولدها الذي ترك مدرسته؛ ولا يعرف من الحياة شيئاً غير الشقاء. ظّلا على هذه الحال سنوات طوال حتى هدّهما التعب، ولم تعد الأقدام تحتمل أي حمل زائد، فولدها الآن لا يستطيع السير على قدميه، ويعاني من مرض المفاصل رغم عمره الذي لا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، وهب بحاجة إلى عملية في الرجل اليمنى، وعمليتين في اليدين لفصل وفتح الأعصاب المتيبسة.
شاهدت عبيدة رجلاً كبيراً في السن يعمل في تلميع الأحذية في إحدى حدائق دمشق، وسألته عن سعر الصندوق الخشبي، وطلبت منه مساعدتها في شراء واحد مثله، لكنه رفض بعد أن علم أنها سوف تعمل بنفس المهنة، وحاول إقناعها بأن تجد عملاً آخر، لكنها أصرت أن يكون عملها الجديد رغم بكاء ولدها الذي لم يستوعب أن تكون أمه ماسحة أحذية للرجال.
بتثاقل كبير، جرّت “عبيدة” قدميها؛ حاملة صندوقها الخشبي، ومشت باتجاه الشارع العام، وجلست على كرسي صغير، ووضعت سبحتها الطويلة في حضنها بانتظار الزبائن الذين مروا من أمامها بحالة دهشة، ولكن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب. توقفت سيارة خاصة، ونزلت منها سيدة صغيرة في العقد الرابع من العمر، وأخرجت ألف ليرة من حقيبتها، ورمتها في حضن عاملة البويا، ومضت مسرعة، حاولت عبيدة اللحاق بها، لكنها لم تستطع، فتيقنت أن البعض يظن أنها “شحاذة”، فذهبت تستدل على خطاط ليطبع لها لوحة تخبر الناس أنها تريد أن تعمل، وألا يخجلوا منها كونها إمرأة، وهكذا كان.
تعيش عبيدة في غرفة إيجارها الشهري 40 ألف ليرة. لا شيء فيها يدل على الحياة، لا براد ولا مروحة، ولا قطعة كهربائية، وصلت مع صغيرها مرحلة الجوع، لكنها لا تريد شفقة أحد. كل ما تريده أن تطعم ولدها ما يشتهي، وأن تحضر له له تلفازاً ملوناً، وقليلاً من الحلويات لكي يفرح.
تأتي عبيدة عدة ساعات في المساء، وتبقى حتى ساعة متأخرة لكي ترزق بالمال، لكنها تعترف أن غالبية الزبائن يأتون إليها متقصدين ذلك، فغالبيتهم أحذيتهم نظيفة، وليست بحاجة للتلميع، وكلهم كرماء، والبعض منهم يعتذر منها لأنه يمد قدميه نحو صندوقها، ولكنه يبرر ذلك حتى لا تشعر بأنهم يعطفون عليها.
يقول عبد الله العراقي القاطن في جرمانا منذ العام 2005: «لقد أدمت قلبي، ولا أعرف كيف أساعدها، وأخاف أن تشك في مجيئي، إنها سيدة فاضلة، والزمن غدر بها. العمل شرف للإنسان، ودائماً ما تقول لنا (أمسحلك حذاءك برأسي) ونحن نلح عليها ألا تكرر ذلك، ودائماً ما تحاول إعادة المال لنا، ولكننا نهرب من المكان مسرعين».
إحدى الجمعيات الخيرية عرضت عليها أن تفتح لها بسطة محترمة، لكنها رفضت ذلك بحجة عدم قدرتها على الوقوف والجلوس. عبيدة. بسطة البويا هي سلاحها، أما المرض فتصر أنها ستقهره ريثما تعالج ابنها.