قصة نبال .. بالتعليم تستطيع ترميم كل شيء
مزنة الزهوري
بالمعاملة الملآى بكلّ إنسانيّة وبكلّ احترام، بصبرها على طلابها وتصرفاتهم، بتشجيعها الدائم وتحفيزها المستمر لهم، وبتعزيزها لخصالهم الحميدة، هكذا تتعامل نِبال مع تلامذتها في صفوفها؛ تأكيداً منها على أهميّة التربية مع التعليم في المدارس.
نبال إحدى المعلمات المتميزات في تدريس التلاميذ اللاجئين في مدارس البقاع. تجاوزت الخمسين عاماً، ولم يفارقها شغف تعليم اللغة العربية؛ بل يزيد كلما علمّت أكثر.
حصلت على إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق. وزاولت مهنة التعليم منذ أن كانت في التاسعة عشر من عمرها. ثم تنقلّت بين المدارس الإعدادية والثانوية في القلمون، إلى أن أجبرتها الحرب على ترك كلّ شيء، والتوجه إلى لبنان.
كانت رحلة النزوح من بين الجبال الوعرة وتحت برد الشتاء القارس ونيران الصواريخ، ولم يثن كلّ ذلك من عزيمتها على أمل الوصول لمكانٍ آمنٍ، تبدأ فيه حياتها من جديد، وتستمر بتعليم الأطفال.
“حتى وإن فقد الإنسان أغلى ما يملك، يستطيع بالتعليم ترميم كل شيء” تقول نبال.
بعد لجوئها بأشهرٍ، بدأت البحث عن عمل مأجور أو عمل طوعي في مجال خبرتها، فوجدت الفرصة المناسبة في إحدى المدارس التي تعلّم المنهاج اللبناني المعرّب. واستمرت منذ بداية عام 2014م حتى الآن.
تقوم نبال الآن بتدريس الأطفال في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، في الدوامين الصباحي والمسائي. ولديها في كلّ عام دراسي ما يفوق المئة تلميذ.
تَعتبرُ نِبال أنّ لحظات الراحة تكون في فهم طلابها لها، ولما تشرحه لهم. فهي تستخدم عدّة مهارات لهذا الغرض، منها التعليم عن طريق اللعب، الذي يعتبر من أفضل الأساليب الحديثة.
من جانب آخر تتحدث نبال أيضاً عن المشاكل التي يعاني منها تلامذتها مضيفة أنّ أبرز المشاكل التي تلاحظها وتحاول التعامل معها هي مشاكل نفسية، ظهرت نتيجة الانقطاع لسنوات عن التعليم، إضافة للمشاكل الاجتماعية التي تظهر إثر فقدان الكثير من الأطفال لآبائهم وأمهاتهم، وأيضاً لعدم وجود الاستقرار والأمان النفسي لهم، حيث يرهقهم الترحال بين الحين والآخر وبشكل مفاجئ من مخيمٍ إلى آخر.
بالإضافة إلى ذلك، وجود التلاميذ الذين انقطعوا لسنوات عن التعليم، مع أطفال أصغر منهم سنّاً في صفٍّ واحد، ولّد توتراً كبيراً. كلّ هذا وغيره من الطوارئ التي أُضيفت لها؛ كل ذلك دفعها لتكون مرشدة نفسية، ومربيّة ومعلّمة لاختصاص اللغة العربية بآن واحد.
طبيعة ونوعية الطلاب في المدارس هنا والخلفيات الاجتماعية المتنوعة لتلاميذ نِبال، زادت من خبرتها ومعرفتها لبقية المناطق السورية، كلّهم يجتمعون في شعبةٍ واحدة، غير ما عهدَتْه في بلدات القلمون، حيث كان الطلّاب من أولاد المنطقة وحسب.
تغيّرت المعطيات عند نِبال، تسمع تلاميذها يردّدون أسماء الدول الأوروبية، ويحفظون مدنها وعواصمها أكثر من مدنهم التي ينحدرون منها، بسبب تشتت عوائلهم وانتشار أقاربهم في تلك البلدان. ما يشكل قلقاً لديها عن مستقبل الهجرة واللجوء لعائلتها أيضاً كما لتلاميذها.
تلاميذُها الذين ينتقلون من مدرستها، أو يهاجرون مع أهلهم، وأولئك الذين يعملون خارج أوقات دوام مدرستهم في الحقول والمحال التجارية، والذين فقدوا ذويهم، أو شهدوا مناظر الدم والدمار والقصف والتشريد؛ يتركون غصّة في نفسها لا تُرَمّم. فالجراحُ عميقة في نفوسهم والآثار السلبيّة للحرب تمكّنت منهم.
نراها الآن دائمة الهدوء محاولةً ابتكار الطرق، والتحضير لتعليمهم وتربيتهم بأساليب تتناسب مع وضعهم. رغم الثماني ساعات التي تمضيها في التعليم يومياً، تعود إلى منزلها، كـأيّ ربّة منزل تمارس مسؤولياتها تجاه عائلتها، وتركن لتدريب ذاتها لليوم التالي.
يسعدها وجودُ روضةٍ للأطفال بجوار المنزل الذي تقطنه، تؤنسها في غربتها. سماع صوتهم يومياً قبل خروجها إلى مدرستها، يبعث التجدد والأمل فيها، تتسلّل السعادة والسرور لأعماقها بالإصغاء للعبهم، وترى نفسها محظوظة بجوارهم، برؤية جيلٍ يكبر يوماً بعد يوم.
تساعد أبناءها وتلاميذها وتحفّزهم على ممارسة هوايات كالرّسم والموسيقى والرياضة، مع دراستهم، كي يتغلبوا على واقعهم. كل ذلك ليس غريباً عليها، فقد نشأت في عائلة كبيرة، دعمتهم والدتهم بشكل أساسي، لتُخَرِّجَ من منزلها المعلمات والمهندسات والطبيبات والممرضات.
والداها هما المثل الأعلى في حياتها. أمُّها حفظت القرآن وحصلت على الإعدادية بعد زواجها وإنجابها. تعلمت في الزمن الذي لم يهتمّ به الناس بتعليم المرأة قبل عقودٍ خلت. ربّتهم وأنشأتهم أفضل تنشئة لينتشروا في المجتمع بمجالات مختلفة، ويعملوا على بنائه رغم أقسى الظروف.
تُعدّ نِبال من أكثر المعلمات مهنيّةً، تشهد لها مدارس البقاع وقبلها مدارس القلمون. حُلمها الاستمرار في التعليم والعودة لبناء الأطفال في سورية، في مدنهم وبلداتهم وقراهم. لا تنتظر ذلك الوقت، بل تواكبه في أصعب أوقات اللجوء الآنيّة، متطوعةً في سبيل تحقيقه.