أخبار

هل نشهد انتفاضة الخبز في الساحل السوري قريباً؟

انتظر إبراهيم (32 عاماً) قرابة ربع ساعة حتى فرغ محل بيع بالجملة في حارته “حارة الدن” (يقع على أطراف مدينة اللاذقية) من الزبائن، وتقدّم إلى صاحب المحل برجاء خافت: أريد أن أشتري (بيضة واحدة) بهذا المبلغ، ومدّ يده بمبلغ خمس وثلاثين ليرة سورية استلمها صاحب المحل وعدّها ناظراً إلى الشاب بعينين متسائلتين، فتكلم الشاب مباشرة: “أعرف أن سعر البيضة خمسين، لكني لا أملك غير هذا المبلغ، لو سمحت”. لم يفكر صاحب المحل كثيراً وقدّم للزبون كيساً يحتوي على خمس بيضات، وبين تردد وتمنع وافق على أخذها وخرج من المحل بسرعة قبل أن يكتشف صاحب المحل دموعه وحرقته وذلّه.

هذا المشهد ليس من اختراع كاتب المادة، بل هو حدث تكرر عدة مرات مع عدد من الأشخاص كما يقول صاحب المحل السابق، محمّد (38 عاماً، غير متزوج)، مضيفاً: “يومياً يحدث ذلك، هناك أناس باتوا يشترون أقل كمية ممكنة من أي شيء، يأتي إليّ أشخاص كوني أبيع بالجملة بفارق بسيط عن غيري، أنا أرضى بربح الليرات مقابل زيادة كمية البيع اليومية، لكن كثيرين غيري لا يقبلون بذلك”.

يعترف محمد أن نسبة ربح المواد التجارية الاستهلاكية انخفضت من 20-22% إلى قرابة 2-5%، يقول: “كان سعر علبة المتة عام 2012 ثلاثين ليرة (حوالي ثلاثة أرباع الدولار وقتها) واليوم قفزت من 450 ليرة إلى 600 ليرة، مع كل هذا نزل الربح من خمس ليرات (20%) إلى 25 ليرات (5%)، وحتى لو جعلناها 50 ليرة، فالنسبة تكون 10%”، وهو ما يجعل التاجر الصغير مثله عرضةً للخسارة اليومية، خاصة مع تذبذب الأسعار اليومي الناتج عن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار الذي بات حديثه حاضراً في أحاديث السوريين اليومية بشكل كبير.

اﻷيام  السوداء

منتصف تشرين الثاني وحتى مطلع كانون اﻷول 2019 شهدت الليرة السورية انخفاضاً حاداً أمام الدولار الأميركي، فوصلت قيمة الدولار إلى ما يقارب ألف ليرة سورية (950ل.س) بعدما  كان يتراوح بين 630-650 خلال النصف اﻷول من العام الحالي، وفي غضون أقل من يومين اشتعلت أسعار كل شيء في البلاد، واحتلت المواد الغذائية المرتبة الأولى في الارتفاع، فزادت بنسبة 25-50%، فمثلاً ارتفع سعر علبة اﻷندومي من 85 ليرة (للبيع بالجملة) و 100 ليرة مبيع مفرق، إلى 125 بالجملة و150 بالمفرّق، والزيادة اﻷكبر لحقت ببقية المواد مع صدور قرار بزيادة الرواتب واﻷجور بقيمة 20 ألف ل.س (28 دولار عند حساب سعر الصرف 714 ليرة سورية) تضاف بعد تثبيت تعويض المعيشة البالغ 11.5 ألف (18 دولار) في أساس الراتب المقطوع.

أثار قرار زيادة الرواتب سخرية مريرة من قبل السوريين، يقول “أحمد .م (موظف في مديرية التربية في اللاذقية) أن مقدار الزيادة الحقيقة على راتبه لم تتعد 13 ألف (20 دولار) إذ أن “راتبه وفق الترتيب الجديد خضع لضريبة الدخل، وبنفس الوقت تضاعفت التأمينات الاجتماعية ورسوم نقابة العمال وزادت ضريبة اﻷرباح واﻷجور”، ويتسائل “يعني تخيل كم نربح من راتب هذا ـ وقد بلغت قيمة المبالغ المقطوعة قرابة 8 آلاف (14 دولار تقريباً) وأقبض اﻵن 48 ألف ليرة (70 دولار) بعد خدمة عشرين عاماً في الدولة، بالمقابل ارتفعت اﻷسعار كلها بنسبة 20% كحد متوسط، وإنشاء الله ما يلحقها تغيير سعر البنزين والمازوت، وإلا رح تطير الزودة بالكامل مع ارتفاع أجور النقل والخبز والوقود عموماً”.

ﻷحمد ثلاث أولاد، بنت في الصف الحادي عشر تدرس في مدرسة المتفوقين في اللاذقية، يقول اﻷب: “أتكلف شهرياً ﻷجلها مبلغ 10 آلاف ليرة للنقل واﻷكل، دون نسيان ضعف المبلغ السابق ﻷجل الدروس، ونحن “مرحومين” من تدريس عدد من المواد باعتبارها في مدرسة المتفوقين، وإلا لدفعنا المزيد، وبالإجمالي فإن نفقاتها تصل إلى 30 ألف شهرياً، وأختها صف تاسع تكلف شهرياً نفس المبلغ إن لم يكن أكثر، وقس على ذلك”.

يعترف اﻷب الأربعيني (من ريف اللاذقية) أنه يعمل بعد دوامه على بسطة قهوة، يتابع: “أمس جاءنا التموين المعظّم وطلب وضع لائحة أسعار جديدة للقهوة والمشروبات التي نبيعها، السعر الجديد لفنجان القهوة (كاسة من ورق) 125 ليرة، كانت 100، طيب، إذا زاد سعر وقية القهوة من 1250 إلى 1650، كيف ستوّفي معنا؟ بنفس الوقت زاد سعر كيلو الورق 200 ليرة، مع كل هذا، سينقص المبيع ﻷن الناس ما معها تاكل خبز، نقصت الغلة التي نقدّمها لصاحب الكولبة (هيكل معدني صغير الحجم يتسع لشخص واحد فقط) الذي يستأجرها من البلدية بمبلغ مليون ليرة سنوياً، دون أن ننسى أن عليه أن يدفع لمعلمه بالفرع”، أما أي فرع، فهذا ما لم أسأله إياه، لقد اكتفى بإشارة من رأسه شمالاً.

 

الكذبة الكبرى: التموين

غالبية الناس سخرت من “الزودة ع الفقر” باعتبار أن تصريحات وزارة المالية تفيد بوجود مبلغ 6000 مليار ليرة في خزينة الدولة، وهي تكفي لزيادة الراتب بنسبة 80% على الأقل دون أي تحريك في العجلة الاقتصادية.

على إثر الزودة “المكرمة من رئيس الجمهورية رأفةً بأحوال الناس وشعوراً منه بوضعهم السيء” كما قال أحد الأشخاص، مضيفاً: “ولكنه نسي أن ليس كل الناس موظفين، الله يسامحو”، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني ودون وجود رادع، تحرّكت عصابات التموين لقمع المخالفات، وسجلت اللاذقية عدداً تجاوز 520 مخالفة وفقاً لحديث موظف في مديرية التموين، لكنها كلها كما يقول الموظف: “طالت التجار الصغار، أحد هؤلاء التجار نال مخالفة بقيمة 150 ألف ليرة لمخالفته اﻷسعار، صدقاً ودون مبالغة لو باع كل بضاعة محله لن يقدر على دفعها، المشكلة أن المراقبين التموينيين مطالبين بعدد محدد من المخالفات ﻹثبات أن المديرية تعمل وأنها في صف المواطن”، يضحك الموظف مضيفاً: “التجار الصغار يعرفون هذه اللعبة، وتعرفها كذلك عصابات المراقبين، ومن يقع من التجار الصغار ليس ﻷنه يخالف اﻷسعار، فليس هناك إلا قلة قليلة جداً من التجار الكبار من يعطي التجار الصغار فاتورة نظامية، وإن فعل، يعطيه فاتورتين، واحدة بالسعر النظامي وأخرى بالسعر الرائج، على التاجر الصغير البيع بالسعر الرائج والتسعير بالسعر الرسمي، والسعر الرسمي يجب ان يوضع على المنتج، وحلها إذا فيك تحلّها”.

نعود إلى محمد، تاجر الجملة الصغير الذي صرّح لنا: “أغلقت المحل فترة ارتفاع الأسعار المفاجئ حوالي ثلاثة أيام، ثم عدت لفتحه بشكل جزئي خوفاً من عصابات التموين وحماية المستهلك، ليس لأني أخالف السعر، ﻷني ﻷ أستطيع أن أسعّر، لكني سأضرب لك مثالاً عما يحدث مع إحدى كبريات شركات مواد التنظيف المرغوبة هنا، والتي رفعت أسعار موادها بنسبة 9%، حيث جاء مندوبها إلينا، قلنا له نريد فاتورة مختومة كي نضع اﻷسعار على المنتج كي لا نتخالف من قبل التموين، فقال لنا أن الشركة ترفض تقديم أي فاتورة ومن يريد ليشتري ومن لا يريد دون فاتورة “يصطفل”.

يدرك محمد، كما المواطنين أن هذه المسرحية الهزيلة المتكررة منذ عقود تطال الصغار ممن لا قدرة لهم على تغيير أي شيء في السوق، في حين يبقى الفاسدون من التجار وغير التجار، أصحاب العلاقات القوية مع اﻷجهزة اﻷمنية ومؤسسات الدولة، حاضرين في السوق يأكلون اﻷخضر واليابس، يشير الموظف السابق  -بخبث- إلى أن 80 % من الضبوط كانت في مناطق شعبية، وهي وحدها من سوف تنفذ في المالية، وأن الباقي، الذي كتبه موظفو التموين الشجعان لتجار نصف كبار، سوف يجد أصحابها طريقة للنفاذ من الدفع عبر علاقاته ووساطاته ودفع الرشى لهذا الرأس أو ذاك.

 

جمود واسع وفقر ضار

لقرابة أسبوع بدا المنظر في شارع الدعتور الرئيسي مريعاً، من الصباح إلى المساء تعبره أشباح التموين فقط، الناس توقفت عن الشراء في ظل انطلاقة اﻷسعار الصاروخية وخواء الجيوب وشبه انعدام القدرة الشرائية لهم، يعترف صاحب مطعم فلافل “العرين” أنه في غضون هذا اﻷسبوع لم يبع سوى كمية قليلة من الفلافل والحمص والفول، وهي أكلات السوريين الفقراء على مدار عقود البعث (وما قبله ولكن ضمن طقوس أخرى وليس بالإجبار من الوضع المعيشي)، يقول: “كان رب العيلة يشتري ب 500 ليرة فلافل ومسبحة وحمص ناعم، اليوم، كل 10 أقراص فلافل ب 150 ليرة، أو كل قرص ب 15 ليرة، نتسامح مع العدد احياناً، حضر التموين وأعطى لائحة أسعار غير مقبولة أبداً، لقد ارتفع سعر كيلو الحمص الناشف الضعف تقريباً، تنكة الطحينة أصبحت ب 47 ألف ليرة بعد أن كانت في حيطان 40، ماذا نفعل؟”.

بين شكوى المواطن والتاجر تبدو الحالة السورية اليوم في حقل الخرافة فعلاً، التجار الكبار، المستوردون، معرفون بالاسم لدى كل السوريين، فكل واحد منهم يستورد مادة معنية يمنع الاقتراب منها، السكر والرز والموز والمواد الكهربائية.. الخ، وهؤلاء يأخذون من الدولة الدولار بسعر محدد (435 ليرة، رفعت مؤخراً إلى 600 ليرة) أي أقل من سعر السوق السوداء، مع ذلك ترتفع أسعار المواد المستوردة قبل غيرها، لا شك أن مفسري الاقتصاد العالمي عاجزون عن تفسير اﻷمر، لكن أحد المواطنين السوريين عرف التركيبة السحرية لما يجري، يقول: “اﻷسعار العالمية لم تتغير، ولم تكن الدولة تدعم أي سلعة من زمان، باستثناء دعم الدولار كي يرتفع على حسابنا”، من الصحيح أن هؤلاء التجار وقبل أن يستوردوا، يبيعون الدولار في السوق السوداء، ويربحون أضعاف ما سيربحون منن الاستيراد، منذ أشهر لم تدخل مواد جديدة إلى البلد، وأتحداهم بذلك، القضية أنهم يكذبون بين الشمس والظل كل يوم آلاف المرات”.

في المرفأ بانتظارك

وحتى مع دخول المواد إلى البلاد، فإن من يكون بانتظارها بحسب “نمير” موظف جمارك في المرفأ، والذي يخبرك المعلومة هامساً: “تستقبلها الفرقة الرابعة، التي تحولت إلى جهاز جباية، منشار ع الطالعة والنازلة، مما لم يعد خفياً على السوريين، وعلى كل كيلو هناك ضريبة”، أي بضاعة واصلة إلى المرفأ عليها ضريبة، وعلى التاجر دفعها فوراً في مكتب الفرقة، وبالطبع ما إن تخرج من المرفأ إلى محافظة أخرى حتى تستقبلها الحواجز اﻷخرى، وهكذا حتى تصل إلى غايتها تكون أسعارها قد تضاعفت عدة مرات.

يقول الرجل: “قبل شهر، حملت نوافذ بيتي الحديدية إلى المنطقة الصناعية في سوزوكي صغيرة كي أزيل الصدأ عنها. فاستقبلني على مدخل المنطقة الصناعية حاجز، أوقفني وكأنني “داعش”، قلت في نفسي: يريد رشوة، وعندما مددت يدي إلى جيبي صرخ بي: لا تجرب، وبوجهك إلى الميزان، يارجل الحديد قديم، قديم جديد ما بيهمني، وعند طلبي مسؤول الحاجز، أشار الرجل إليه وقال لي روح لعندو، تتهنا، لم يناقشني الضابط المسؤول، وأشار إلى الميزان، وهكذا تم وزن السيارة، ودفعت 12 ألف ثمن ضريبة ع الحديد”.

 

في الطريق إلى الرمل الفلسطيني

يمكن تعداد عشرات الحكايات التي تحدث مع السوريين هنا، في الساحل أو في غيره.

كثير من التعليقات على المنصات الاجتماعية تحوّلت إلى الحذر الشديد مع ارتفاع منسوب الاعتقالات في الساحل، اليوم، وربما ليس هذا بجديد، أي كلمة غير محسوبة على تلك المنصات قد تودي بك إلى مضافة أحد اﻷجهزة المختصة بالمواطنين.

في الطريق إلى منطقة الرمل الفلسطيني (أطراف اللاذقية)، يلفت نظرك العدد الكبير نسبياً للناس الذين ينبشون في القمامة. لم تكن الظاهرة جديدة، لكن الجديد أن من كان يخجل من النبش كان يمارس فعله ليلاً، اليوم، لم يعد هذا الخجل وارداً، فالكل في الهم … سوريون.

حيدر محمد

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *