أخبار

زيت وزعتر مع خبز وطن محروق

خولة غازي 11698693_10153410386809334_1086559086192767417_n

“ما يجمعنا لن يفرقنا” , هذا ما قالته الجدة المسنة وهي تحاسب البائع المتجول القادم من القرية الملاصقة لقريتها ، وأردفت قائلة : مصابكم مصابنا ، ولن يفرقنا إلا الموت ، من عندكم الزعتر من عندنا زيت الزيتون .

ضحك من نقل الحديث ، ولكنه لا يعلم قيمة ما قالته تلك الجدة ، لا يمكن أن تأكل الزعتر بالماء ، ولا لوحده ، سوف تغص وتبتلع حبات قد تقتلك ، جرب بكل الوسائل ، لا تستطيع حتى ولو أكلته بغير زيت الزيتون ، زيت آخرغير زيت زيتون الساحل أو الكردي زيت زيتون عفرين ، فلا نكهة ولا طعم ، هذا الطعم الذي استوطن الذاكرة والجينات هو الأصل ، هو الهوية . على مدى خمس سنوات ، تفككت العلاقات بين السوريين إلى حد بعيد وزارتها الريبة والشك في كثير منها ، و بات الموت زائرا يوميا في بيوت السوريين . رائحة البخور تفوح من القرى التي تتلقى يومياً العزاء بخيرة شبابها في حرب عبثية لن يخرج منها أحد منتصراً . وفود التعزية بين القرى تأخذ شكلاً احتفالياً في كثير من الأحيان ، الكثير من الرصاص ، سيارات وأصوات تهليل ، فمن مات ” عريس ” . عريس و ” عروسته ” كانت وهو طفل ” الزيت والزعتر ” . الزعتر بكامل بهاء مكوناته المحلية الأصلية : السماق والسمسم والزعتر والكمون والحمص والفستق الحلبي وغيرها من المكونات المتحصلة من أرض خصبة ، سقتها أمطار من سماء واحدة ونهر يمر من جميع القرى سبح فيه من يتقاتلون الآن وهم صغار . الزيت والزعتر ليس مجرد صحن على مائدة فطور السوريين بل هو نسيج حياة حيك بعناية الأيام والسنوات العجاف ، حاله كحال السوري لا يستطيع الابتعاد عن أخيه مهما ضاقت بينهما ، فلا يستطيع إبن الشمال أن يستغني عن ابن الجنوب ولا ابن الشرق أن يستغني عن ابن الغرب . اللاذقية على سبيل المثال يسكنها الحلبي وابن ادلب والرقة وكذلك في دمشق ، هذا التعايش في الحياة وفي الوجع هو سر الخلطة السورية المهددة بالضياع . منذ مدة كتبت إحدى السيدات على صفحتها في الفيسبوك ،أنها خسرت ولديها الاثنين في الحرب ، أحدهما كان مع الجيش الحر والآخر جندي في الجيش النظامي . وتوجهت لأصدقائها بالقول : “من يحب سوريا فعلاً ، كان سيجنبها وقوف الأخ ضد أخيه” .

كلامها واقعي وخلطتنا السورية عجيبة خلطة الزعتر كما البشر أيضا توزن بدقة ، مقاديرها يجب أن تكون مظبوطة تماماً ، فالزيادة في أحد المكونات ، سوف يكون له مذاق مختلف غريب ، وكذلك عندما تفقد الوصفة أحد المكونات لن يكون ما تأكله زعتراً .

الزعتر السوري يختلف عن اللبناني والاردني والفلسطيني ، لكل منهم زعتره ، و مذاق يشبهه ، يشبه أرضه وشعبه . الزعتر السوري بلونه القريب من لون الأرض ومنذ خمس سنوات ، لم يعد كما كان ، اختلطت المقادير ويكاد أن يغيب طعمه الأصلي ، طعم الحب والألفة والتعايش المشترك مع الزيت ولقمة الخبز . أصابع أطفال سوريا التي كانت كل صباح تغمس لقمة الخبز في صحني الزيت والزعتر ، أصبحت قليلة ، و”عرايس ” الزيت والزعتر في حقائب التلاميذ باتت شحيحة ، والرغيف السوري لم يعد طازجا شهياً ، بات محروقاً كما الأرض التي تدفن أبناءها كل يوم ، وسكانها الذين لم تستقر بهم الأرض منذ سنوات حيث جحافل الموت تحصدهم في كل مكان وأرض حتى في البحر. هل ستنتصر مكونات الخلطة السورية ، أمام الخلطات الأخيرة الهجينة والغريبة عنها؟؟ ، سؤال سوف لن تطول إجابته . طوبى لمكونات الخلطة السورية ، خلطة الحياة والحب .. لقد آن الأوان أن تعود مقاديرها إلى سابق عهدها .!

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *