أخبار

هل تصبح سوريا بابل الجديدة الضائعة؟

محمد السلوم 

تروي الحكايات أن مدينة بابل استيقظت ذات صباح، ليكتشف أبناؤها أن كلاً منهم يتحدث بلغة مختلفة، وبذلك عمّت الفوضى والاختلاف، لقد تبلبلت بابل، وضاعت إلى الأبد، وبقي لنا منها ذكريات عن حدائقمحمد السلومها المعلّقة وحضارتها المذهلة.

وهذا ما يحصل معنا؛ إذ بعد كل هذا الانفتاخ الوطني الكاذب والحديث عن اللحمة الوطنية المزيفة، كان لابد لنا من هزة كبيرة توقظنا من سباتنا لنكتشف غربتنا فيما بيننا، وأننا لانقل بؤساً عن البابليين الذين بات كل منهم يتحدث بلغة مختلفة.

“مايُسمى” هي العبارة التي تحكم علاقة السوريين فيما بينهم، وهنا لا أتحدث عن مخاطبة النظام للمعارضة ب “ماتُسمى بالمعارضة” ولا عن مخاطبة المعارضة للنظام ب “مايُسمى بالنظام السوري” فهما خصمان لدودان لايقبل أي منهما بوجود الآخر حتى الآن، ولكن الحديث عمن يُفترض أنهم في جانب واحد. إن نشوب أي اختلاف بين أجنحة المعارضة -وهي كثيرة- يدفع مباشرة بحالة نكران الآخر إلى الواجهة، لتبدأ مخاطبته ب (مايُسمى) وفي بيانات الفصائل والتيارات المعارضة أمثلة لاتُعد ولاتُحصى؛ مايُسمى بالائتلاف الوطني، ماتُسمى بهيئة التنسيق، مايُسمى بالجيش الحر، ماتُسمى بحركة حزم، ماتُسمى بجبهة النصرة،…

هذا النكران لايقف عند الحد اللفظي فقط، بل هو تعبير عن محاولة إنكار الوجود أصلاً وإنهائه حتى لو بالعنف والاستئصال، كما حدث بين النصرة وحزم مثلاً.

هذا الاغتراب البيني مردّه في معظمه إلى انعدام أي شعور مُوحِّد يجمعنا كسوريين، أي إحساس بالانتماء للوطن، فالانتماء مازال في حالته المجهرية الأدق: العائلة، القرية/القبيلة.

ذات جلسة كان الجميع يقف ذاهلاً أمام صور الشهداء في درعا، وعلى حين غرة تلقف طفلٌ جهاز التحكم، ووضع التلفاز على إحدى قنوات الأطفال قائلاً باحتجاج: أي هدول مو من ضيعتنا!

قبلها كنت قد أجريت تجربة على عدد من مجنّدي الكتيبة التي كنت أقضي فيها فترة خدمتي الإلزامية ضابطاً مجنداً، حيث جمعتُ مجندي الكتيبة ووضعت أمامهم ثلاث خرائط: العالم، الوطن العربي، سوريا. وطلبت منهم أن يُحدِّدوا موقع سوريا، ثم موقع محافظاتهم. كانت مستويات المجندين التعليمية تتباين بين الأميّ والخريج الجامعي، ولكن النتائج كانت متّفقة في مأساويتها، فسوريا أصبحت في تشيلي أو في كوريا الجنوبية، أو في تونس في أحسن الأحوال، وحلب في درعا، ودرعا في الحسكة، والحسكة على البحر المتوسط وطرطوس على حدود العراق!

بعد هذه التجربة وبعد ما قاله الطفل، ماعدت استغرب قيام أبناء حلب من العسكريين بارتكاب مجزرة في درعا مثلاً، لأن الضابط المسؤول قال لهم: إن هؤلاء إرهابيون، ولا قيام أبناء درعا بمجزة في إدلب، أو قيام أبناء إدلب بمجزرة في دير الزور. فهؤلاء جميعاً ليسوا من “ضيعتنا”.

قبل الثورة حدثني أحد المدرسين عن حادثة جرت في الثمانينات في ريف إدلب الجنوبي، حيث جمع أحد الضباط رجال القرية وهددهم بالقتل إن لم يُسلموا بعض المطلوبين من قريتهم، فقفز أحد المجندين متطوعاً بقتلهم جميعاً مقابل إجازة من 48 ساعة!

لم أصدق الحكاية حينها، ولكن مامر بنا جعلني أصدقها وأصدق حكاية صديق آخر كان مع القوات التي اقتحمت درعا في بداية الثورة قبل أن ينشق، فحدثني عن رهان وقع بين جنديين من الجزيرة تراهنا على إمكانية إصابة راعٍ كان يرعى غنماته بالجوار، وكان الرهان: حبة بطاطا مسلوقة! وماهي إلا لحظات حتى استقرت في رأس الراعي رصاصة أردته قتيلاً، وفاز الجندي بحبة البطاطا مع قهقهة عالية ممن حضر الرهان، فيما تكفل إعلام النظام بالحديث عن وحشية الإرهابيين الذين قتلوا الراعي المسكين. هذا الاستسهال في القتل كان قبل خمس سنوات، فما بالكم اليوم، بعد كل ماعايشناه من دماء وأشلاء ومجازر، أظن أننا تجاوزنا مرحلة التوحش بكثير، وبات القتل أكثر مجانية، حتى دون حبة بطاطا!

إن مشكلتنا لايمكن حلّها بمشهد يقف فيه رجل دين مسلم بجانب رجل دين مسيحي في نهاية مسلسل باب الحارة مترافق بموسيقا وطنية، مشكلتنا لم تكن يوماً بين طوائف، هي أعمق من ذلك. ومن دَرَسَ في الجامعة وشاهد التحالفات المتحاربة لأجل انتخابات “اتحاد الطلبة” يعرف جيداً عمّا أتحدّث، فالمعارك بين “الحموية والديرية والإدلبية والحلبية والرقاوية” لا تكاد تتوقف في جامعة حلب مثلاً، وقد لقي عدد من الطلاب مصرعهم نتيجتها.

ما فعلته الثورة لم يكن خلق هذه المشكلة أو إيجادها من العدم، بل تعريتها وإظهارها من تحت الرماد إلى حيز العيان، ومحاولة البعض حصرها في صراع بين السنة والشيعة والعلويين والدروز والأكراد هو مغالطة مقصودة وتقزيم متعمّد لها.

لقد فشلت الثورة حتى الآن بمعالجة هذه المشكلة المدمِّرة لمجتمعنا، بل قامت بتعميقها في بعض الانحرافات بفعل الإجرام المنقطع النظير الممارس عليها من قبل النظام الأسدي، والذي كان له الدور الأساس في خلقها وتجذيرها على مدار أربعة عقود.

إن الثورة الحقيقية التي ستعمل على بناء الشعور بالوطن وتعميق الوعي بأهمية بعضنا لبعضنا الآخر هي ثورة تالية، تبدأ في اللحظة التي تتوقف فيها آخر مجزرة وآخر بندقية!

وحتى تحين تلك اللحظة؛ علينا أن نفعل ما بوسعنا لرأب الصدوع المتوسعة يومياً، والتخفيف من تردينا الإنساني المتسارع ما أمكن.

كفرنبل 23-11-2015

التعليقات: 1

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *

  1. أحسنت الوصف والتوصيف مع صعوبة الوصفة إن لم تكون مستحيلة مع جيل مسخ أخلاقيا عبر عقود من الزمن وأملنا بمن كان له شيئ من المناعة تدارك مايمكن والأهم الجيل القادم .