أخبار

هي قصة إنسان

ثائر الزعزوع

عبد المعين السوري أباً عن جد عاش حياته فقيراً، أتيحت له الفرصة حين أتم الخامسة والأربعين من عمره للسفر إلى المملكة العربية السعودية للعمل في إحدى المشاريع الهندسية، استطاع خلال أربع سنوات أن يغير حياته تقريباً، فقد امتلك بيته المستقل عن بيت أبيه الحاج منير.

عبد المعين السوري أباً عن جد صار لديه دكان صغير في مدينته الصغيرة، قريباً من بيته الصغير الذي امتلكه وهو في سن التاسعة والأربعين، حين قامت الثورة كان عبد المعين قد بلغ الخامسة والخمسين وكان يجلس في دكانه الصغير يستمع إلى نجاة الصغيرة تغني : أيظن؟

التقيت عبد المعين في مصر وكان يتقلب على جمر النار باحثاً عن عمل، أي عمل، فهو لم يعتد الاتكال على أحد في حياته، ولا يقبل أن يصير عالة، بناته الثلاث طالبات جامعيات وزوجته السورية مثله أباً عن جد انتقلن معه إلى مصر بعد أن ضاع بيتهم  ودكانهم جراء القصف الذي تعرض له حي بابا عمرو، أصدقاؤه السوريون في السعودية لم يساعدوه في تأمين فيزا تمكنه من العودة إلى البلاد التي استطاع فيها أن يؤمن حياته، ولذلك فقد كانت مصر بالنسبة له ملاذاً آمناً.

عبد المعين السوري أباً عن جد كان صاحب نكتة حمصية فطرية، قال وهو يخاطب أحد أصدقائه إن الثورة قامت فقط لتأخذ منه بيته و دكانه، وهي لن تقدر أن تأخذ من آل الأسد سوريا التي ورثوها ولداً عن أب. فهم سيقتلون السوريين جميعاً قبل أن يقبلوا التنازل عن مملكتهم السعيدة.

قال لي وهو يقرأ رسالة نصية وصلته على هاتفه المحمول، صدقني يا أستاذ سأرجع إلى حمص ولو حشو الكفن (1)… ضحك ثم استطرد: كان أبي رحمه الله يقول إن الكفن لا جيوب له. أضاف هذه رسالة من صديقي في ليبيا لقد أمن لي عملاً هناك، يعني أن المسافة ستكبر أكثر ولكن لا يهم، سأسافر…

عبد المعين السوري أباً عن جد سافر تاركاً زوجته وبناته الثلاث في أم الدنيا لظروف اقتصادية ولوجستية كما قال وقتها فهو لا يستطيع أن ينقل بناته إلى الجامعة في ليبيا وقد بدأن مواصلة دراستهن في جامعات مصر، كان هذا قبل أن تنقلب الدنيا في أم الدنيا، ويصير السوري منبوذاً بعد أن كان محبوباً، وقد تقطعت به السبل، فلم يعد قادراً على العودة إلى مصر، ولا على الطلب من زوجته وبناته اللحاق به إلى ليبيا، كان لا بد من خيار ثالث، وقف على شاطئ المتوسط وتذكر: “البحر من أمامك ولا شيء وراءك” قرر أن يعبر  البحر كما يفعل الآخرون، وهذا ما حدث، نقلته رحلته المحفوفة بالمخاطر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وهناك صارت حمص أبعد بكثير، صارت في آخر الدنيا كما قال لي مرة عبر الواتس، تحركت أوروبا تحت قدميه حتى وصل إلى الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، وهناك في السويد بدا ذلك السوري أباً عن جد غريباً وحيداً، جعله برد البلاد ينكفئ على نفسه أكثر ثم أكثر، شخصت المؤسسة التي تتابع أوضاع اللاجئين حالته بالكآبة، فضحك، كتب لي: تعرف هؤلاء الأطباء مجانين، لو أنهم عاشوا حياتهم في حمص ثم انتزعوا منها كما انتزعت لما قالوا إني مصاب بالكآبة بل لقالوا: هذا طبيعي…

عبد المعين السوري أباً عن جد، حصل على الإقامة السويدية وبدأ إجراءات لم الشمل لعائلته، كان الرجل الذي تجاوز الثامنة  والخمسين يواظب على دروس اللغة ولا ينسى مراجعة الطبيب الذي يشرف على كآبته، وبدأ يبحث عن عمل، لأن القعود يزيد التفكير، وهو  لا يريد أن يفكر، آلام المفاصل يمكن احتمالها ولكن آلام الرأس لا تطاق، بعد أن مر على وجوده في بلاد الثلوج عام ونيف حصل على حق لم الشمل، ركض إلى المطار برفقة عدد من أبناء البلد الذين يعرفون قصته، التقى زوجته وبناته، ولأول مرة منذ أن ماتت أمه قبل عشرين سنة يبكي، بكى مثل طفل وهو يعانق ما تبقى له في هذه الدنيا.

قالت زوجته السورية أباً عن جد: كان مبسوطاً، ظل طيلة الليل يحكي لنا ما شاهده وما تعلمه… لقد كان يتحدث لنا بالسويدية.

قالت ابنته الكبرى: لقد فرح كثيراً حين أخبرته بأنني تعلمت بعض الكلمات السويدية وقال لي إنها لغة سهلة، يعني العربية أصعب منها بكثير…

ابنته الوسطى ظلت ساكتة، ولم تنبس ببنت شفة…

ابنته الصغرى كانت تبكي

عبد المعين السوري أباً عن جد لم يعد إلى حمص ولو حشو الكفن لكنه ووري الثرى صباح اليوم التالي في مدينة مالمو السويدية…

  • في إشارة إلى قصيدة الشاعر الحمصي نسيب عريضة، ويقول في أحد أبياتها:

(عُد بي إلى حِمصٍ ولو حَشوَ الكَفَن  واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ)  

التعليقات: 0

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *