أخبار

جنوب سوريا ومركزها

 

لم يدرك الكابتن كاربييه الحاكم الفرنسي العسكري للسويداء فترة احتلالها كيف تجمَّع أبناءها وجاؤوا من بلدان محيطة ليلتحقوا بالثورة ضد الفرنسيين، هو الذي همس له أحد الضباط ذات احتفال “ألا تخشى أن ينقلب هذا الحشد ضدك؟”

انقلاب الدروز فجأةً بوجه عدوهم كمقاتل يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على خصمه ليقلب الطاولة عليه، هي سمةٌ اكتسبوها بعد تجارب عديدة معهم خلال تاريخهم بعد استقرارهم في السويداء منذ ما يقارب الأربعمائة عام، وقد فاجأ انقلابهم بوجه الفرنسيين الاستعمار نفسه لتتحقق مخاوف الضابط المرافق لكاربييه  ولو بعد حين، فينتفض الدروز بوجه الفرنسيين لا في الجبل وحده بل ليتجاوزوه وصولاً إلى الغوطة وحماه وحمص وجبل الشيخ، ويتكبد الفرنسيون خسائر فادحة بحملاتهم المستمرة إلى الجبل والتي لم يعد منها سوى أعداد قليلة من بين الآلاف المهاجمة، قبل أن تلملم فرنسا جيوشها من المغرب وتحشدها باتجاه الجبل لتعيد الأمور إلى ناصيتها، بعد سنتين من المعارك الطاحنة.

استقرار الدروز في الجبل كمنطقة يصعب اقتحامها، وبحثاً عن استقلال لهم من مجازر لبنان علمهم ألا يسلموا أبناءهم لخدمة أحد، رغم ميلهم للانخراط في مؤسسات الدولة وقبول القانون شريطة ألا يشتت شملهم ذلك الانخراط ويفرق قواهم، وهو ما اتبعوه خلال حكم البعث، الذي انخرطوا في جيشه دون أن يأمنوا جانبه، الأمر الذي كلفهم الكثير من الضباط في محاولة حافظ الأسد لتطويعهم بعيداً عن تهديد استقرار سلطته.

اليوم وبعد مرور سبع سنوات على انطلاق الثورة السورية وتطورها إلى الحرب لاحقاً، لا زال الدروز يتجنبون الانخراط الواضح مع أي طرف في الصراع، فلا هم يرون في النظام حامٍ أو حليفٍ لهم، ولا هم يأمَنون معارضيه وتشكيلاتهم وخطابهم.

وقد ذكرنا في مقال سابق انهم واعون لعدم حماية النظام لهم من خطر داعش، لكنهم يدركون أنه سيسمح لها بالتسرب إلى السويداء حين يريد، وسيؤدي ذلك إلى التفاف أبناءها حول فصائلها المحلية، وقد أراد اليوم، ووقعت المجزرة المرتقبة.

هجوم داعش المباغت والذي لا يحمل دلالات السيطرة والتثبيت للمناطق، كان واضح الرسالة وهي إيقاع أكبر خسارة بشرية ممكنة ومرعبة.

قبل أسابيع جاء النظام بداعش إلى بادية السويداء من الحجر الأسود لتتعزَّز مواقعها هناك، ويسحب جيشه من شرق السويداء مؤخراً، ويسحب كذلك مجموعات من لجان الدفاع الوطني، بالإضافة إلى بدء سحب السلاح من أيدي الفصائل التي سلمها السلاح سابقاً، وليقطع الكهرباء عن القرى التي تمت مهاجمتها في الليل، ويبدأ تقدم عناصر داعش. بما يشبه التنسيق بين حليفين، ويتسلل عناصر منها إلى قلب المدينة في اختراقٍ أمنيٍّ واضح، ليتصدى لهم الأهالي وحدهم ودون رصاصة واحدة من الجيش أو قوات الأمن.

الأهالي توجهوا بالاتهام إلى النظام الذي اتضح لهم مساهمته في تنفيذ العملية، لكن وصول النظام في سوريا إلى مرحلة لم يعد يمتلك قراره فيها، تذهب بالإشارة إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يكون هو المنفذ لا صاحب القرار.

بعد خروج داعش من الحجر الأسود إلى بادية السويداء والتفات العالم إلى ملف الجنوب بات من المعروف أن هناك ما يتم تحضيره لهذا الجنوب، بدءاً من استقدام داعش إلى جواره، وحشد الجيش السوري لقواته بمواجهة جبهة الفصائل المعارضة في درعا، هناك حيث ستبدأ معركة درعا وتنتهي بعد أيام قليلة بما يشبه تنفيذ اتفاق على الأرض معروف النهاية.

وفي حين تمت تسوية الاتفاق مع الفصائل المعارضة، بقيت جيوب داعش في المنطقة خارج أي اتفاق سواء شرق محافظة السويداء أم في شمالها الغربي أم في اللجاة أم في حوض اليرموك، تلك الأخيرة التي تتواجد في منطقة قريبة من إسرائيل ودون أية صراعات بينهما.

وفي الوقت الذي لم يتوصل فيه اللاعبون الإقليميون والدوليون لاتفاق نهائي حول مصير الجنوب وحول مصير التواجد الإيراني في المنطقة، وحول الضمانات المطلوبة من قبل إسرائيل، ظلَّ ملف الجنوب مفتوحاً أمام احتمالات تحرك كثيرة من قبل الأطراف للسير بالأمور نحو مصالحها أكثر ونيل ضغط أكبر في التفاوض. وبالتالي سيحتد الصراع أكثر حوله وهو ما أظهرته الوفود المتتالية إلى المحافظة واللقاءات المستمرة لأجل بحث مصيرها، لكن الوفود واللقاءات خرجت بنتيجة مفادها عدم القدرة على سحب الجبل لأي طرفٍ كان وأن السنين السبع التي مرت عليه راكمت بداخله الحذر أكثر من أي انجرار نحو أحد.

دخول داعش إلى السويداء بهذه المجزرة الكبيرة سيضع السويداء أمام احتمالات جديدة وتحالفات جديدة ربما، لكن وقوف أبناءها وحدهم في مواجهة داعش وطردها خلال ساعات بطريقة لم تشهدها المناطق التي دخلتها داعش قبل ذلك، منحهم الثقة أكثر بقوتهم وقدرتهم وجدوى الاعتماد على الذات، وبالتالي عزز لديهم شرعية فصائلهم المسلحة، وشرعية قرارهم بعدم إرسال أبنائهم إلى الجيش، وشرعية التفكير بما يشبه تأمين الحماية الذاتية، وتوجههم نحو حالة التقوقع أكثر. فمن مصلحة من ذلك؟

يدرك النظام الذي استطاع التعامل مع المحافظة طيلة السنوات السبع كمحافظة من محافظات سوريا أنها تغدو اكثر من ذلك حال إحساسها بخطر وجودي، وهي التي تمتد حينها إلى جرمانا وصحنايا وجبل الشيخ وإدلب وصولاً إلى دروز لبنان والأردن وفلسطين، وذلك ما يتوقف على مقدار الخطر الوجودي بحقهم، ومقدار احتمالهم لتروي الحسابات حينها. أي أنهم قد يتحولون إلى مركز أحداث سوريا بلحظة ما، إن وقع الخطر الأكبر عليهم، وهو ما توقَّعه منهم السوريون غداة اغتيال الشيخ البلعوس عام 2015، لتأتي الحسابات المتروية لصالح التهدئة.

لكن وإن تجاوز النظام حادثة اغتيال البلعوس الشخصية الإشكالية ضمن المحافظة نفسها، ليس من السهل تجاوزه لإدخال داعش الواضح إليها اليوم، مما قد يترتب على ذلك تقديم بديل عن النظام نفسه كحامٍ وضامنٍ لها ولحقوقها عوض النظام، فمن سيكون ذلك البديل؟

السؤال برسم الأيام القليلة القادمة والاتفاقات الدولية بما يخص ملف الجنوب معها. وإلى حينها ستبقى المجزرة المروعة عصا للتلويح وأغلب الظن أنها لن تتكرر، لكن ستتكرر تحرشات أو حتى تحركات محاذية قليلة لداعش تكفي بالتذكير بالمجزرة، ليبقى هول الفاجعة حاضراً وحاجة الحماية حاضرة وحالة الالتفاف الدرزية حاضرة، وستترسخ المجزرة في ذاكرة السويداء، لتضيف حجراً فوق جدار حذرها من أي حلٍ مستقبلي، وترفع سقف ضماناتها، بعد أن تُركت وحيدة في المواجهة إلا من أبنائها.

خالد الخطيب

التعليقات: 1

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *