أخبار

حينما التقيت جاك شيراك ..

فارس الذهبي

كانت تلك الحادثة في النصف الثاني من التسعينات ، حينما دلف إلى صفوف مدرسة التجهيز في دمشق ،الموجه المسؤول عن صفوفنا ، والموجه في المدارس السورية  هو أستاذ سابق ،لكنه امتلك بطريقة ما واسطة أو نفوذ ما فتحول إلى مهنة الموجه أي الأستاذ المسؤول نفسياً وتنظيمياً وإدارياً عن عدد من الصفوف الدراسية .

وكان الموجه لدينا في تلك الأيام رجل لطيف ضحوك وذكي ، ولكنه عصبي حينما يحاول الادعاء بأنه مهتم أو يهتم لما سيفعل ،فالرجل كان لا يعطي اكتراث لأي شيء إلا لعب الورق في المقهى أو الطاولة والنرد في غرفته أو الاسترسال في اطلاق النكات مع المدرسين ،ولكنه بفطنته البهية ، كان يدرك أنه لا بد له من التصرف أحياناً بطريقة توحي أنه يسيطر على الموقف أو أنه يستطيع لجم هذا العدد الكبير من الطلاب المراهقين الذين لا ينفكون عن إثارة المشاكل والمتاعب ، حتى أنه ذات مرة اضطر إلى دفع ثمن سندويشة فلافل لأحد الطلاب الذي أراد الانتقام من زميله لأنه لم يساعده على الغش في الامتحان ،فلقد كان يعلم بأن مهمته في تلك المدرسة كانت صعبة فهو لا يعلم من من هؤلاء الطلاب، هو أحد أبناء المسؤولين الذين قد يعيدونه إلى تدريس الجغرافيا المملة في لمح البصر ، ويحرمونه من جنة التوجيه والوقت المستباح في الثرثرة التي يعشق .

وما أن دلف الموجه بسرعته المعهودة حتى أدركنا بأن هنالك أمراً أو خطباً ما ، فالرجل كان واضحاً بالنسبة لنا ،وعلى الفور قاطع درس الأستاذ منصور الذي كان يعلم اللغة الانكليزية قبل الظهر ،أما بعد الظهر فقد كان يعمل في كشك أمام حديقة الجاحظ ،والأستاذ منصور هو نموذج معاكس للموجه ،فهو رجل جاد و عنيد ويحاول جاهداً أن يصنع لنفسه هالة من الاحترام ولكن ظروفه كانت على الدوام تفضحه ، وخصوصاً حينما تواجه مع أحد الطلاب في الكشك الشهير في بوابة حديقة الجاحظ وحصل بعدها ما حصل في عموم المدرسة.

ومن دون استئذان دلف الموجه إلى الصف و قاطع الدرس قائلاً ، نحن نريد عدداً من الطلاب الذين يرفعون رأس الوطن عالياً ، نريد من يتحدث القليل من الفرنسية على الأقل حتى نذهب لاستقبال الرئيس جاك شيراك صديق سوريا .

ألقى بكلماته تلك وكأنه يلقي بخطاب وطني أمام الشعب ،وعم الصمت الكبير بحثاً عن من يتكلم ولو القليل من الفرنسية في صف اللغة الانكليزية ،وبدأ الجميع ينظر إلى بعضهم البعض ، فالمسألة تبدو مشوقة للغاية وفيها كم من الوطنية والمغامرة وفي تلك الأيام كانت الوطنية أشبه بالمزاد العلني .

رفع أحد أصدقائي المشاغبين يده ومن ثم أشار إلي لأنني كنت قد درست ستة أشهر اللغة الفرنسية قبل أن أنتقل للإنكليزية  ، وأشار أيضاً إلى اثنين من الرفاق .

فابتسم الموجه بسعادة وسجل الأسماء ، لأنه كان من المفروض جلب مئات الطلاب كي يفترشوا أرض المطار ملوحين بالأعلام السورية والفرنسية واللافتات المرحبة باللغة الفرنسية  وهم مبتهجون باستقبال الرئيس جاك شيراك ..وكان العدد غير كاف والمهمة  التي خطرت على بال أحدهم كانت تبدو وليدة اليوم ،فالاستقبال كان مقرراً في يوم غد مباشرة .

وهكذا قطعنا درس اللغة الانكليزية الذي يديره الأستاذ منصور و الذي كان بدوره غاضباً و حانقاً ،ولكن ما باليد حيلة ، وذهبنا إلى غرفة الموجه حيث طاولة الاجتماعات أو جلسات التوجيه النفسي للطلاب الذين يعانون من مشاكل صعبة ، هناك أزاح الموجه طاولة النرد جانباً و المجلات و الصخف والجرائد من فوق الطاولة و وضعهم إلى جوار سخانة الشاي والمتة أرضاً ..

وجلسنا برفقة مدرسة اللغة الفرنسية نراقب كيف تكتب لافتات الترحيب باللغة الفرنسية للرئيس الضيف ،بينما كان عدد الطلاب ومعهم الموجه يراقبون انحناءات الآنسة فوق الطاولة بسعادة لا تقدر بثمن   أحضرنا الكرتون المقوى  وأقلام التلوين وبدأت الآنسة بالكتابة وهي تشعر بالفخر والسعادة لتلك المهمة الكبيرة التي أنيطت بها وبكم الأهمية الذي حظيت به ، فشيراك يزور سوريا بينما لم يزرها من قبل أي رئيس وزراء بريطاني ،ومع ذلك هم يظلمونها ويظلمون اللغة الفرنسية في ذلك البلد غير العادل .

وبعد الانتهاء من الكتابة و التلوين وقفت الآنسة قرب الحائط إلى جانب الموجه الفخور بما أنجز وبدأت تقرأ اللافتات وتعلمنا كيف نرددها بسلاسة خلفها  ،حيث ارتقى المستوى اللغوي فجأة للجميع  إلى مستويات كبيرة ..

وكمكافأة لنا منحنا الموجه السعيد ، إجازة لبقية اليوم الدراسي ،بينما دعا أستاذة اللغة الفرنسية الجميلة إلى فنجان قهوة من البن الفخم الذي يحتفظ به عادة في درج خاص .

في الحي الذي أسكن فيه اجتمعت مع رفاق التدخين الليلي بعيداً عن أعين الجميع وأخبرتهم بينما أنا أجد كلماتي بين سحابة دخانهم الكبيرة ، بأنني سأشاهد غداً جاك شيراك ، توقعت ردود أفعال كبيرة أو على الأقل أن أثير فضولهم في هذا الفعل الكبير ، لكن لم يكن لأحد أن يهتم ،بل أن أشدهم فضولاً سأل :شو رح تستفيد من هاي الشوفة ؟ .

استفزني الموضوع ونزلت إلى البقال أبو هيثم ،الذي كان جميع أهل الحي يتداولون عنده الأخبار من السياسة حتى إشاعات الطلاق والزواج ، وحينما أخبرته بما يجري معي ، دخل فؤاد وهو مهندس في هيئة المياه وحينما سمع ما أقوله ،قال لي : أخبره إن رأيته بأننا نود أن نسافر علنا نحظى بفرصة جيدة في بناء حياة محترمة أو على الأقل أن يخفض لنا سعر الطعام والحليب الذي نشتريه ..صمت جميع من في المحل حينما قال قوله هذا ، حتى أن من يشرب الكولا على جانب البراد وهو يدخن صمت والتفت إلينا وكان لا يلتفت لأي حديث يدور عند أبو هيثم حتى لو كانت قنبلة ، بينما انتفض ابو هيثم قائلاً يا أخي مليون مرة قلتلك إنها أسعار الدولة ولا دخل لي ،بعد أن أخذ فؤاد  الحليب الغالي الثمن وغادر، بادر أبو هيثم للقول إنه يتشاجر مع زوجته باستمرار وهي ستجعله يطفش من البلد ،محاولاً أن يلطف الجو ..

وهكذا لم تلفت أخباري القومية بزيارة جاك شيراك نظر أحد طالما أن شيئاً لن يتغير في حياتهم اليومية

في اليوم التالي ،وكان أغلبنا مرهقين من حضور السينما والمشي الطويل والتسكع  في أسواق المدنية و مطاعمها الرخيصة ،اجتمعنا أمام بهو المدرسة ، بينما كان بقية الطلاب يتلصصون علينا من النوافذ المسيجة بأسوار حديدية تشبه السجن ، وهم يستعدون لجولات طويلة من الدروس المملة ،فيما كنا نرفع أصوات ضحكاتنا بافتعال مقصود  لدينا قبيل المسير الكبير إلى المطار ، حتى أنه كان لدينا صديق بعثي من مدينة التل ، أحضر معه دربكة و الكثير من السندويشات أعدتها له والدته ، كي ترافقه في المشوار الطويل ..

وهكذا صعدنا إلى باصات النقل الداخلي التي جلبت خصيصاً لنقلنا من المدارس إلى المطار ،وما ان انطلق السائق حتى بدأ الغناء والرقص من الطلاب وكأننا فعلاً ذاهبون إلى البحر ، بينما أطلق صديقي البعثي الذي ينحدر من مدينة التل يديه للريح وللدربكة، وأشعل بحماسته الثورية لهيب أغاني فهد بلان وراغب علامة والجميع يردد خلفه بمتعة ، ولكن حظه التعس كان بمكان حيث أن رئيس الشعبة الحزبية كان في الباص  المجاور وشاهده ،فما كان منه إلا أن أمر سائق باصه بأن يوقف سائق باصنا ، والذي بدوره رفض وأبى أن يتوقف لأنه في عرف الشوفيرية تلك هي إهانة كبيرة جداً ، ولكن بعد الكثير من الأبواق والزمامير و الصراخ من الشبابيك ، فهم السائق أن الموضوع لا علاقة له بتنافس الشوفيرية وتوقف على جانب الشارع ،فدلف رئيس الشعبة بغضب كبير من الباص الأول و دخل باصنا ،وعلى الفور توجه إلى صديقي صاحب الدربكة وصفعه وأمسك بالدربكة ورماها أرضاً فانكسرت ،صارخاً به ، هل تعلم بأننا ذاهبون في مهمة وطنية ،ولسنا ذاهبون في سيران إلى البحر .

وعلى الفور تجهم المكان كله بينما كظم الكثير من الشامتين ضحكاتهم على الصديق البعثي الذي لم يستوعب المهمة الوطنية التي اختاروه لها .

وما أن اقتربنا من المطار حتى بدأنا نشاهد صفوف من الطلاب والطالبات من عدد كبير من المدراس اصطفوا على جانبي الطريق خارج المطار ، بينما كان يبدو أننا مدعومون ومهمون أكثر ، لأننا من مدرسة المسؤولين و الواسطات  كما هي الاشاعة، حيث أننا سندخل إلى  حرم المطار نفسه .

وبالفعل كان حظنا أن الباصات أنزلتنا في أرض المطار تماماً ،حيث شاهدنا إلى الأمام منصة الشرف والسجادة الحمراء  والحرس المتجهم المتوتر المنتشر هناك .

وعلى الفور اصطففنا على جانبي السجادة الحمراء ،تحت الشمس الحارقة دون أن ننبس بأي كلمة ، في انتظار وصول الطائرة ،كان الجو مفعماً بالسكوت والتوتر ،والجميع يرمق الآخرين بنظرات الشك والارتياب ،حتى بات  الجميع يحدق إما في الأرض أو في السماء مخافة أي التقاء للنظرات قد يؤدي لأي احتكاك.

كنت في غاية الحماس و الشوق لرؤية الرئيس الفرنسي الذي نشاهده على الدوام  في نشرات الأخبار ،وكان ذلك سبباً في عدم تعبي و استسلامي للحر الشديد .

وبعد أقل من ثلاثة ساعات ، بدأت حركة غريبة في المطار وبدأ الكثير من الرجال بالركض والهرولة في أرض المطار ،وما هي إلا دقائق حتى لاحت في الجو طائرة اير فرانس ،تحوم فوق مطار دمشق الدولي ،تريد الهبوط ،بينما كانت أعيننا جميعاً معلقة بها ، مثل الأطفال ودون أية كلمة .

بعد فترة هبطت الطائرة ووضع السلم للنزول ،وخلال دقائق بزع رجل طويل جداً من باب الطائرة ،وضع يده على جبينه كي يشاهد المنظر الذي تعيقه الشمس ،وهنا تدفق الأدرينالين لدينا بشدة وبدأ أعضاء اللجنة الحزبية بالتلويح للضيف الزائر ،بكلمات ( أهلا وسهلاً ) و(دمشق ترحب بكم ) باللغة الفرنسية ،وكنا طبعاً نمثل دور أننا أبناء الشعب الطبيعيين العفويين الذين أتوا تلقائياً  وعفوياً للترحيب بالرئيس الضيف .

حصل كل ذلك بسلاسة ،حتى سمعت همساً من أحد الزملاء يقول ، انظروا نظروا ، إنه السيد الرئيس ، إنه السيد الرئيس ، والتفت الجميع بمن فيهم أعضاء اللجنة الحزبية والأساتذة والموجه ومدرسة الفرنسي، الجميع التفت تاركاً الرئيس الفرنسي يهبط درج الطائرة وحيداً دون هتاف  ، بينما كنا نتطلع  نحو الأب القائد الذي جاء بنفسه لاستقبال الرئيس الضيف ،وكانت تلك أول مرة يرى الجميع فيها رئيس بلدهم ،بهذه الدرجة من القرب ،كانت مشاهدة الأب القائد أشد ارواءاً للفضول من مشاهدة الرئيس الفرنسي الذي نشاهده في التلفزيونات والمجلات في كل مكان ،ولكن مشاهدة الأب القائد كانت تلقائية و صامتة تماماً ، فمن يجرؤ حتى على الهتاف بحضوره .

كان رجلاً عجوزاً شاحب اللون ، يتسند على مساعديه اللذين ابتعدوا قليلاً كي يمنحوه الفرصة لالتقاط مجموعة من الصور ، ولكنه بعد ذلك أحس بالحر ، فخلع معطفه ، وبعدها خلع طاقيته الشهيرة..

كنا جميعاً نشاهده بعيون مدهوشة ، ودقات قلب متسارعة ومتزايدة ،بينما كان جاك شيراك يهبط الدرج ويمر فوق السجادة الحمراء ،  جميعاً كنا نراقب الرئيس المفدى الذي لا يظهر إلا في لقطات نادرة ،ولم نراقب الرئيس الضيف بما يكفي ، وبالتالي لم نردد أياً من عبارات الترحيب والاستقبال للرئيس الضيف الذي لوح طويلاً جداً لشعب لم يعرفه ،ظن أنه شعب سعيد

التعليقات: 162

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها ب *