ذكريات مجمّدة مع الزبدة في مقلاة واحدة
أحمد خليف
السابعة تماماً بتوقيت برلين، فنجان قهوة على شرفتي مع سيجارتي التي ألفَ الهواءُ مُداعبتها، و قرعُ أجراس الكنائس الذي نادم أُذني و سامرها .
الشوارع خاليةٌ تماماً و الهدوء عميق، بعض المارة وتلك السياراتُ التي تَعبرُ الشارعَ مسرعةً جداً.
لا أحد هنا يكترث لأحد و الأيام متشابهةٌ جداً.
التعاسة، الملل، اليأس، الوحدة، الحرمان، و جرعٌ زائدةٌ من كل ما هو سلبي.
رؤية أحلامنا تتحطم أمام أعيننا رويداً رويداً.
عندما تتقدم هذه الجيوش قبيل النوم، لتغزوا لبّ كهف رأسك الممتلئ بغبار الذكريات المندثرة، و أثناء تمحصك في سقف غرفتك و أنتَ مستلقٍ على سريرك، فاعلم أنّك في فترة النعاس قبيل النوم.
نعم هي فترة النعاس، حيث يصفوا الذهن و يعرجُ إلى ما يحتاج إليّه فقط و بكل صدق.
ربما البعض يسميه “أرق“.
لكنّه الحنين، يوقظك من نومك و يبعدك عنه .
حنين لجدران المنزل و لأصوات المآذن.
حنين لرائحة أرض الوطن، لنسمات سمائه.
حنين لجيرانك، ولحيّك، لأصدقاء الحيّ، لدُكّان البقالة.
حتى لتلك النادلة في المطعم، وذاك الجارُ المزعج.
لكل ما كان جميلاً.
لإخوتك.
لأقربائك، أعلمُ أنّ معظمهم لا يستحقون الشوق.
لمدرستك أو جامعتك.
أنا و بشكل شخصي، أفتقد عبارات المارة التي كنت أسمعها في بلدي :
“وعليكم السلام أبو عبدو تفضل شراب شاي معنا“
” مسا الخيرات هلا جار الله ينور مساك بأنوار النبي“
” أبو محمد كل يوم عم تشطف الرصيف جأجأت الدنيا مي“.
اشتاق إلى صوت مذياع بائع الخضروات، و قرعِ بائع المحروقات على جرة الغاز.
اشتاق لرد المجيب الألي عند مهاتفتي لأحد ما، ثم أتفاجئ بخلو بطاقتي من الرصيد :
“عذراً عزيزي المشترك، إن رصيدك هو 2 ليرة سورية فقط“.
اشتاق للعربية.
اشتاق لاستفسارات أمي التي ملئ الشيب خصالها و دعواتها :
” إيمتَ رح تترك الدخان يا ابني؟ الله يهديك بس“.
اشتاق لعبق ثياب أبي حين عودته من العمل، والذي ملأت التجاعيد وجهه و أنا في منفاي، متذكراً وعودي المنكوثة له بأنّي حين أنهي دراستي لن أدعهُ يعملُ أبداً.
اشتاق لسوريتي.
اشتاق لنفسي حيث تركتها هناك.
كل منّا يحمل الحنين، فلا تدّعون أنّه الأرق .
اشتاق لفتاتي و التي اتفقنا مسبقاً أن نموت سوياً، لا أنّ أحاول وبشكل دوري أن أموت وحيداً بعيداً عنها، بإعتراضي لشاحنات النقل السريع مغمضاً عيناني مفكراً بها و برائحة فستانها الأبيض و شعرها المُجعّد على وجه الخصوص، أو أن أموت على سريري كعجوز وحيد هرم، بعيداً عنها بجانب كلبٍ أجنبي السلالة مدّربٍ على عض اللصوص و المجرمين، مجازر كثيرةٌ من مجازر التفكير بها .
لا أصدقُ أنّي أعيشُ في هذا البؤس.
كل الأشياء هنا خاليةٌ من المعنى، كل هذا عبث.
أدركُ أننا مختلفون، شكلاً و ديناً و خلقاً ….
لكن الشيء الوحيد الذي نتقاسمه جميعاً، هو “لحظة واحدة مشتركة“
تلك اللحظةُ نعيشها جميعاً، لحظةُ البكاء على وطن أو عزيز فقيد.
هذه اللحظة لا تحتاج إلى عرق أو دين محدد أو وضع اجتماعي مرموق كما هو الحال في معظم الأشياء، تحتاج فقط إلى الوحدة و الهدوء.
بدأت البحث في الإنترنت، “كيف تنسى شخصاً ما“
لكن لم أجد حلاً سريعاً، أحدهم قال : “أذكر الله” و الأخر قال : “حاول أن تجد غيره“
لكن أنا عاجز عن أن أجد نفسي، و كيف لي أن أجد غيرهم! هم لا يتكررون في العمر مرتين.
بدايةً لم يكن يرضيني أن أجمع ذكرياتي ثم أخبأها في تلك ثلاجة، لم يناسبني أن أضعها بجانب أكياس البازلاء و الفرّوج المجمّد، لكن لاحقاً أدركتُ أنّه أمر ناجحٌ جداً، فكلما هزني الحنين أخرجتُ بعضاً منها و استخدمته كحقنة بنج له.
سيضحكك الأمر بدايةً، لكن لاحقاً ستدرك مثلي أنّها خطةٌ ناجحةٌ جداً، وطريقة استعمالها سهلةٌ جداً لكنها متعبة، فلن تستطيع احتمال هذا لوحدك.
كل ما عليك باكورةً:
هو إخراج بعض الذكريات المجمّدة، ثم وضعها في مقلاة مع بعض الزبدة، لكن إيّاك أن تحرقها فهي صالحة للاستخدام أكثر من مرة، وغير متوفرة في الأسواق، صدقني سينجح الأمر في إيصال لذعة مهدئة للشوق و الحنين اللذان يعربدان في جوف قلبك.
عندما تفوح الرائحة في أرجاء المطبخ متغلغلة إلى تجويفك الأنفي، ستقوم بتمييز ما تحتاجه من ذكريات وما لا تحتاجه، تماماً كما يميّز الرضيع بأنفه ثدي أمّه من أيّ ثديّ غريب، و ستدرك لاحقاً كما أخبرتك أنّك لا تستطيع احتمال هذا لوحدك، و ربما تتمنى لو أنّ هناك بطلاً أخر يشاطرك هذه اللحظة ليحمل عنك كتفاً، ثم ستسقط أنتَ و ذكرياتك بكافة ألوانها في سرة الحياة مسترجعاً تلك اللحظات …
هي نفسها تلك اللحظات التي تذكرني بحضنها الدافئ.
هي نفسها تلك اللحظات التي تذكرني كيف أنّها نقشت صورتها في صدع رأسي الفارغ، وكيف رسمت ابتسامتها على جدران قلبي ولم تتغير أبداً.
هي نفسها تلك اللحظات التي كنت أهجع فيها رأسي على ركبتيها، كيف كانت تنثني لتسحب رأس الجورب من فوق أصابع قدمي لتنتهي به فوق كاحلي حتى لا يبطشني البرد.
ذاك الجورب الأحمر، الذي حاكته بسنارتها و كرة الصوف الحمراء تلك، و الذي لا يذكرني سوى باِحمرار دماء السوريين.
كيف كانت تسهر ليلاً على راحتي، لتبكي متوسلة لي أن أهدأ و أنام، أرضعتني حليباً ممزوجاً بدموعها الحنونة.
لهذا السبب غدوت حنوناً.
لهذا السبب أستفيق ليلاً على صدى صوتها في أرجاء غرفتي، صوتها الذي صُنع من أسلاك العود و الكمان، سيمفونية متكاملة السمات، تبكيني و تسعدني و تنصرني في آن واحد.
لهذا السبب أتمنى لو أنّها كانت جواري الآن لأرى تجاعيد وجهها في عمرها الحالي،
“فإن كانت الجنة تحت أقدامها، فحتماً أنهارها تجري في تجاعيد وجه أمي “..
هي نفسها تلك اللحظات، التي تشتاق فيها إلى من رحلوا، وفي تلك اللحظات أيضاً يمكنك توجيه رسالة لهم، مسترجعاً ذكرياتهم معك.
عزيزي الراحل :
قد مضت ثلاثُ سنواتٍ ذقتُ فيها قسوة الفراق و حرقة الشوق و لوعة الحنين.
ما زال طيفك يراودني في وحدتي و سكوني، و مازالت روحك النقية تعيش في وجداني المكسور، و ما انفكت ابتسامتك الهادئة تترامى إلى مسمعي، و التي حينما أسمعها تأجج جحيم قلبي المكلوم .
إنّها ذكرى رحيلك الثالثة التي تمر عليّ دون الأهل أيضاً، رحيلي و رحيلكَ معاً.
كثيرٌ من الأصدقاء قد دفنوا أيضاً، ومن لم يُدفن منهم، فرّ من ظلم الحرب و بطش الساسة كما فعلتُ أنا، لا أعلم إن كانوا قد دفنوك أم لا، لكن في حياتنا لم يعُد من المُقدّر لنا أن نرغد بحياة هادئة كسائر الشعوب، فهل تتوقع أن نرغد بدفئ القبر كسائر الموتى؟
أو أن نعيش مع أبٍ و أمٍ و أسرة؟
أن نعيش في منزل الصغير؟ نتقاسم الطعام و دفئ اللحظات!
لا يا عزيزي، لم يعد من المُقدر أن نعيش كسائر البشر فالمفاهيم تغيرت.
أخي الغالي :
مازالت الدار هناك كئيبة موحشة، و أمّي هناك أيضاً تعيش مرارة الفراق وحرقة الشوق لرؤياك المستحيل و أمل عودتي المجهولة، أمّا أختي الصغيرة فمازالت تتأمل عودتك منكرةً فكرة الموت، وما زال أبي يدعو لك في قيام الليل.
هذه هي الحياة، قاسيةٌ عندما يمتزج الألم مع الحزن، والفقدان مع الشوق في بيت الوحدة .
هذه هي الحياة، عندما تمتزج الذكريات المجمّدة مع الزبدة في مقلاة واحدة …